ما معنى الحياة

بقلم عزالدين خليل 

المقدمة: نحو تحطيم السؤال ذاته


إذا كان هناك سؤال واحد يطارد الإنسان منذ أن ارتقى من حيوانيته إلى وعيه، فهو بلا شك: "ما معنى الحياة؟". ومع ذلك، فإن السؤال في حد ذاته ينطوي على افتراضات مسبقة، كأن للوجود غاية مخفية تنتظر الكشف، أو أن هناك حقيقة مطلقة قابعة خلف ستار هذا العبث اليومي. لكن هل نسأل السؤال الصحيح، أم أننا مجرد رهائن لأسطورة كبرى صنعناها بأنفسنا؟


لنتأمل الأمر بعقلية التحليل النفسي، حيث كل سؤال يحمل في طياته رغبة لا واعية، وكل بحث عن معنى هو محاولة للهروب من قلق دفين. الإنسان لا يبحث عن المعنى لأنه يريده، بل لأنه يخشى الفراغ، ذاك الفراغ الذي يطارده كظل. هنا تنكشف الحقيقة المرعبة: نحن لا نبحث عن إجابة، بل عن مخدر يحمينا من مواجهة اللاجدوى، من مواجهة أنفسنا عراةً أمام هاوية العدم.


ولكن، لنكن أكثر راديكاليين—لنأخذ مطرقة الفكر ونحطم السؤال ذاته. ماذا لو كان هذا السؤال مولودًا من فشل العقل البشري في التكيف مع حقيقته؟ ماذا لو لم تكن هناك إجابة، ليس لأن الحياة بلا معنى، بل لأن السؤال نفسه عبثي، كأن يسأل المرء عن لون الصوت أو عن شكل الزمن؟ نحن نعيش في كون بلا مبالاة، ونصرّ على طرح أسئلة تبحث عن أهمية ذاتية وسط فضاء لا يعترف بوجودنا أصلاً.


إن أي محاولة لصياغة معنى نهائي للوجود هي انتحار للعقل، تمامًا كما أن الاعتقاد بعدمية تامة هو انسحاب جبان من اللعبة. لا يمكننا أن نقبل بأي يقين، سواء كان دينيًا أو علميًا أو فلسفيًا، لأن كل يقين هو محاولة لجعل الكون يقول ما نريده نحن، وليس ما هو عليه. إن الإجابة الوحيدة الأكثر منطقية من العدم ليست في إيجاد معنى، بل في إدراك أن اللعب بالمعاني هو ما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش.


السؤال لم يكن يومًا عن "المعنى"، بل عن كيفية تعاملنا مع وهمه.

الفصل الأول: الإنسان وسؤال المعنى – هل نبحث حقًا أم نهرب؟


1. الإنسان بين الوعي والقلق: أصل السؤال


يولد الإنسان في حالة من الجهل المطلق، لكنه ليس كائنًا ساذجًا؛ فهو محكوم بلعنة الوعي منذ اللحظة التي يدرك فيها وجوده. وبينما ينساق الحيوان خلف غرائزه بلا تردد، يجد الإنسان نفسه غريبًا عن هذا العالم، عالقًا بين الفهم والغموض، بين الوجود والعدم. الوعي هو سلاح ذو حدين: يمنحنا القدرة على التفكير والإبداع، لكنه أيضًا يضعنا في مواجهة قلق وجودي لا يمكن التخلص منه.


هذا القلق هو المحرك الحقيقي لسؤال: "ما معنى الحياة؟". نحن لا نبحث عن المعنى لأنه ضروري لنا، بل لأن غيابه يخلق فراغًا مخيفًا يجعلنا غير قادرين على تحمل أنفسنا. السؤال ليس نتيجة فضول فلسفي خالص، بل هو محاولة لصياغة قصة تبرر وجودنا، حتى لو كانت هذه القصة مجرد وهم.


إذا تأملنا الطفل الصغير، سنجده يسأل عن كل شيء: لماذا السماء زرقاء؟ لماذا نموت؟ لماذا أنا هنا؟ لكن السؤال الأهم الذي لا يستطيع العقل الطفولي طرحه هو: لماذا يحتاج الإنسان إلى معنى أصلًا؟ هنا نبدأ في إدراك أن البحث عن المعنى ليس استفسارًا بريئًا، بل هو غريزة، مثل غريزة البقاء نفسها، لكنه أكثر تعقيدًا، لأنه ليس مدفوعًا بالحاجة الفيزيولوجية، بل بالخوف من مواجهة الحقيقة: أن الحياة قد تكون بلا معنى، وأننا لسنا سوى مشروع بيولوجي عابر داخل كون أعمى.


2. البحث عن المعنى كآلية دفاع نفسي


إذا نظرنا إلى حياة البشر، سنجد أنهم نادرًا ما يتوقفون للتفكير في معنى وجودهم إلا عند مواجهة أزمة كبرى: مرض، موت، فشل، أو لحظة صادمة تجردهم من وهم الاستقرار. قبل ذلك، يعيش الإنسان داخل منظومة من المعاني الجاهزة: الدين، العائلة، العمل، الحب، الطموح، لكن هذه المعاني ليست أكثر من آليات دفاع نفسي تحمينا من السؤال الحقيقي.


علم النفس يفسر ذلك بوضوح: عندما نواجه عدمية محضة، يتحرك العقل فورًا لإيجاد معنى يمنعنا من الانهيار. نحن لا نبحث عن الحقيقة، بل عن ما يجعلنا قادرين على الاستمرار. الفارق بين الإنسان العادي والفيلسوف هو أن الأول يقبل الإجابات الجاهزة كي لا يفقد توازنه، بينما الفيلسوف يشكك في كل شيء، حتى في الحاجة إلى التوازن ذاته.


ولكن ماذا لو كان الفيلسوف مخطئًا أيضًا؟ ماذا لو كانت محاولة تجاوز الحاجة للمعنى ليست إلا شكلًا آخر من الهروب؟ العدمية الكاملة تبدو موقفًا قويًا، لكنها في الحقيقة استسلام خفي. من يدعي أن الحياة بلا معنى، ثم يستمر في العيش، هو في الحقيقة يبحث عن معنى، لكنه يرفض الاعتراف بذلك.


3. الوهم المقدس: كيف صنعنا المعنى لنخدع أنفسنا؟


على مر التاريخ، كانت البشرية تصنع أنظمة فكرية تمنح الحياة قيمة. الأديان، الفلسفات، الأيديولوجيات، كلها محاولات لإعطاء إجابة على السؤال الكبير. لكن هذه الإجابات ليست موضوعية، بل هي بناءات عقلية صنعتها الثقافة واللغة والتاريخ.


الدين: يمنحنا إجابة مطلقة، لكنه يتطلب إيمانًا غير مشروط، وهو ما يجعله غير مرضٍ للعقل المتسائل.


العلم: يفسر لنا كيف يعمل الكون، لكنه لا يخبرنا لماذا نحن هنا.


الفلسفة: تقدم لنا احتمالات متعددة، لكنها تتركنا في النهاية أمام خيارنا الشخصي.


العبثية: تخبرنا أن البحث عن المعنى بلا جدوى، لكنها لا تقدم بديلًا حقيقيًا.



كل هذه المحاولات ليست أكثر من محاولات لخلق "وهم مقدس" يجعل الحياة قابلة للتحمل. وهنا يكمن التناقض: نحن نعرف أن هذه المعاني ليست حقيقية في ذاتها، لكننا لا نستطيع العيش بدونها.


4. هل يمكننا التحرر من السؤال؟


إذا كان السؤال عن معنى الحياة هو مجرد استجابة نفسية للخوف من العدم، فهل يمكننا تجاوزه؟ هل هناك حالة ذهنية نستطيع الوصول إليها حيث لا نحتاج إلى معنى؟ الفكرة تبدو جذابة، لكن الواقع يقول إن الإنسان، بتركيبته النفسية والعصبية، لا يستطيع العيش في فراغ مطلق. حتى الذين يدّعون التحرر من الحاجة للمعنى، ينخرطون في أنشطة تمنح حياتهم قيمة ضمنية: الفن، الفلسفة، المتعة، التجربة.


إذن، السؤال ليس كيف نجد المعنى، بل كيف نتعامل مع حاجتنا الفطرية إليه دون أن نقع في فخ الإجابات الساذجة أو العدمية القاتلة. المعنى ليس حقيقة، لكنه ضرورة، والمفارقة الكبرى هي أن علينا أن نخدع أنفسنا، لكن بطريقة واعية، بطريقة تجعل الحياة تجربة تستحق أن تُعاش، لا وهمًا يجب أن نؤمن به بشكل أعمى.

نحن لا نبحث عن معنى الحياة، بل نهرب من رعب فقدانه. السؤال في حد ذاته ليس إلا خدعة عقلية، وهم صنعه الوعي الإنساني ليبرر استمراريته. لكن الحل ليس في التوقف عن طرح السؤال، بل في تغييره: بدلًا من أن نسأل "ما معنى الحياة؟"، ربما يجب أن نسأل "كيف نصنع معنىً يجعل الحياة قابلة للاحتفال، لا مجرد احتمال بيولوجي؟".


الفصل الثاني: تحطيم الثنائيات الزائفة – المعنى ليس موجودًا ولا معدومًا


1. المعنى بين الاكتشاف والاختراع: هل هو حقيقة أم وهم؟


لدى الإنسان ميل غريزي للبحث عن المعنى وكأنه حقيقة مخفية بانتظاره، كما لو أن الكون قد صُمم بطريقة تمنح وجوده غاية مسبقة. لكن هذا الافتراض قائم على خطأ منهجي: لماذا نفترض أن المعنى شيء يُكتشف، وليس شيء يُخترع؟


إذا نظرنا إلى التاريخ الفكري، نجد أن الإنسان لم "يجد" أي معنى جاهز، بل كان دائمًا يصنع معانيه وفقًا لسياقه. المعاني الدينية، الفلسفية، وحتى الأخلاقية، كلها تطورت عبر الزمن، ولم تكن يومًا مطلقة أو ثابتة. هذا يقودنا إلى نتيجة صادمة: المعنى ليس حقيقة موضوعية، بل بناء ذهني، لعبة يصنعها العقل ليمنح نفسه هدفًا حتى لا ينهار أمام العدم.


لكن إن كان المعنى مجرد وهم، فهل يعني ذلك أنه عديم القيمة؟ هنا نواجه أولى الثنائيات الزائفة:


إما أن يكون للوجود معنى مطلق ونهائي.

أو أن الحياة عبثية تمامًا بلا أي قيمة.



لكن لماذا يجب أن يكون الأمر محصورًا في هذين الخيارين؟ لماذا لا يكون المعنى مرنًا، متغيرًا، شخصيًا، ومتعدد الطبقات؟ لماذا لا نقبل أن الوجود بلا معنى متأصل، لكننا في الوقت ذاته نملك القدرة على منحه معنى خاص بنا؟


2. بين المطرقة والرقصة: هدم المعاني وإعادة بنائها


لنقتبس روح المطرقة الفلسفية: إذا كان المعنى وهمًا، فلنحطّمه، لكن ليس بهدف القضاء عليه، بل لنصنع منه شيئًا أكثر ديناميكية وصدقًا. تحطيم المعاني التقليدية ليس رفضًا لها، بل تحريرٌ منها، لإعادة تشكيلها وفقًا لإرادتنا.


كل المعاني التي ورثناها – من الدين إلى الأخلاق إلى الفلسفة – ليست أكثر من هياكل فكرية صنعها الإنسان في لحظات ضعفه أو قوته. لكن بدلًا من قبولها أو رفضها، يمكننا أن نتعامل معها كمواد خام، كأدوات نعيد تشكيلها وفقًا لإرادتنا الخاصة. تمامًا كما يعيد الفنان تدوير القديم ليخلق فنًا جديدًا، يمكننا أن نلعب بهذه المعاني دون أن نُستعبد لها أو نسقط في العدمية المطلقة.


لنتخيل الفيلسوف القديم الذي ينهار أمام فكرة أن "الحياة بلا معنى"، ثم لنتخيل راقصًا حرًا وسط الشارع، لا يسأل عن معنى الرقصة، بل يختبرها بكل جوارحه. أيهما أقرب للحقيقة؟ الأول عالق في سجن الأسئلة، بينما الثاني منسجم مع تدفق الحياة. ربما كانت الحياة رقصة أكثر منها لغزًا يحتاج إلى حل.


3. لماذا البحث عن المعنى مشكلة بحد ذاته؟


إذا كان للوجود معنى واضح ومحدد، لما كنا مضطرين للسؤال عنه. فالحقيقة لا تحتاج إلى من يبحث عنها، بل تفرض نفسها بذاتها. إن اضطرارنا للبحث عن المعنى هو في ذاته دليل على غيابه الموضوعي، وهو ما يدفعنا إلى صنعه بدلاً من العثور عليه.


لكن المشكلة الأكبر ليست في غياب المعنى، بل في الطريقة التي نبحث بها عنه.


نبحث عن معنى ثابت، بينما الحياة متغيرة.


نبحث عن معنى خارجي، بينما المعنى الحقيقي لا يوجد إلا داخل وعينا وتجاربنا.


نبحث عن معنى منطقي، بينما المعنى قد يكون عاطفيًا، حسيًا، أو حتى عبثيًا.



إن كان هناك شيء يجب كسره بالمطرقة، فهو هذه الفكرة البالية التي تقول إن المعنى يجب أن يكون واحدًا، موضوعيًا، ونهائيًا. لا يوجد معنى واحد، بل احتمالات لا نهائية من المعاني، تتغير مع الزمن ومع وعينا الشخصي.


4. المعنى كتجربة، لا كإجابة


ماذا لو كانت الإجابة على سؤال معنى الحياة ليست جملة فلسفية، بل تجربة معيشة؟ ماذا لو لم يكن الهدف إيجاد "حقيقة نهائية"، بل خلق لحظات ذات قيمة شخصية، دون الحاجة إلى تحويلها إلى مطلقات؟


الحب، الفن، المعرفة، المغامرة، كل هذه ليست "معاني نهائية"، لكنها مصادر لمعانٍ ذاتية. الإنسان لا يحتاج إلى "إجابة"، بل إلى مساحات يختبر فيها وجوده بشكل غني ومليء بالحيوية. لا نحتاج إلى يقين، بل إلى تجربة حقيقية تجعل الحياة مثيرة للاهتمام، تجعلها قابلة للعيش رغم عبثها.


إذا كانت الحياة بلا معنى موضوعي، فلماذا لا نعاملها كلوحة فارغة، كأرضية إبداع مفتوحة، حيث يكون كل شخص هو الفنان الذي يرسم معناه الخاص؟

تحطيم وهم المعنى المطلق لا يعني السقوط في العدم، بل يعني التحرر. التحرر من الإجابات الجاهزة، من الثنائيات الزائفة، ومن الحاجة إلى يقين غير موجود أصلاً. الحياة ليست ذات معنى، لكنها ليست عبثية أيضًا. إنها ببساطة مساحة مفتوحة للعب، للتجربة، للخلق، للعيش بشغف دون انتظار إجابة من السماء أو من الفلسفة.


إذا كان لا بد من خلاصة لهذا الفصل، فهي أن السؤال عن معنى الحياة ليس مشكلة تحتاج إلى حل، بل هو دعوة للمشاركة في رقصة الوجود، دون خوف، ودون انتظار مبرر خارجي لما نشعر به ونعيشه.


الفصل الثالث: المعنى بوصفه إرادة – من البحث إلى الخلق


1. لماذا لا يكفي إدراك غياب المعنى؟


في الفصلين السابقين، حطمنا فكرة أن المعنى كيان موضوعي يجب اكتشافه، وكشفنا زيف الثنائية بين "وجود معنى مطلق" و"عدم وجود أي معنى على الإطلاق". لكن يبقى سؤالٌ أكثر أهمية: ما الذي يجب أن نفعله بهذا الإدراك؟


معرفة أن المعنى ليس حقيقة جاهزة بل بناء ذهني لا تعني شيئًا ما لم تتحول إلى قوة تدفع الإنسان نحو الفعل. الإدراك وحده لا يكفي، كما أن الانسحاب إلى العدمية ليس حلًا، بل استسلامٌ لوهم آخر. هنا نصل إلى نقطة تحول: إذا لم يكن للوجود معنًى جاهز، فعلينا أن نصنعه بأنفسنا، بإرادتنا، لا بانتظار أن يُفرض علينا من الخارج.


2. إرادة المعنى: لماذا نحتاج إلى خلق شيء بدلاً من اكتشافه؟


إن أعظم قوة يمتلكها الإنسان ليست وعيه، بل قدرته على الخلق. كل فكرة، كل قصة، كل أسطورة عظيمة، كل فلسفة، كل إنجاز بشري، لم يكن سوى نتاج إرادة لم تكتفِ بقبول الواقع كما هو، بل قررت إعادة تشكيله.


إذا نظرنا إلى أكثر الأشخاص تأثيرًا في التاريخ، سنجد أنهم لم يكونوا مكتشفين للمعنى، بل مخترعين له. الأنبياء، الفلاسفة، الفنانون، القادة، لم يكونوا متلقين لحقيقة جاهزة، بل صُنّاع حقيقة جديدة. الفرق بين الإنسان العادي والإنسان الخلّاق ليس أن أحدهما وجد المعنى والآخر لم يجده، بل أن الأول ينتظر الإجابة، بينما الثاني يفرض إجابته الخاصة على العالم.


لكن، كيف يمكن خلق معنى دون الوقوع في الوهم؟ هل يمكننا أن نخدع أنفسنا بصدق؟ هذا يقودنا إلى مفهوم أكثر تطورًا: إرادة المعنى ليست بحثًا عن وهم جديد، بل هي إدراكٌ واعٍ أننا نلعب لعبة، ومع ذلك، نقرر أن نلعبها بكل جدية.


3. المعنى كتجربة لا كغاية نهائية


إحدى الأخطاء التي وقع فيها الفلاسفة واللاهوتيون أنهم افترضوا أن معنى الحياة يجب أن يكون غاية نهائية. لكن ماذا لو كان المعنى أشبه بالموسيقى؟


الموسيقى لا تُعزف للوصول إلى النهاية، بل للاستمتاع بالتجربة ذاتها.


الرقصة لا تكون ممتعة عندما نصل إلى الخطوة الأخيرة، بل عندما نكون في حالة اندماج كامل مع الحركة.



إذا تعاملنا مع الحياة بنفس المنطق، فسنكتشف أن المعنى ليس شيئًا يجب الوصول إليه، بل شيء نعيشه في كل لحظة نصنع فيها تجربة ذات قيمة. الحياة ليست اختبارًا نحتاج إلى حله، بل مساحة نستطيع أن نصنع داخلها أشكالًا لا نهائية من المعاني، دون أن نحاول جعل أي منها مطلقًا أو نهائيًا.


4. كيف نصنع معنىً خاصًا بنا؟


إذا قبلنا أن المعنى ليس حقيقة موضوعية، بل شيء نصنعه بإرادتنا، فكيف نقوم بذلك؟ هنا بعض المبادئ التي يمكن أن تساعد في خلق معنى خاص بكل فرد:


1. افعل شيئًا تعتقد أنه يستحق الفعل، حتى لو لم يكن له غاية كونية.


لا تنتظر مبررًا خارجيًا لما تقوم به. الكتابة، الرسم، السفر، التعلم، الحب، كلها معانٍ محتملة طالما أنك تختارها بإرادتك.




2. ارفض السلبية المطلقة، لكن لا تبحث عن يقين مزيف.


لا يوجد معنى مطلق، لكن هذا لا يعني أن كل شيء فارغ. التوازن بين الوعي بعدمية المعنى الموضوعي، وبين خلق معنى ذاتي، هو ما يجعل التجربة الوجودية غنية.




3. اجعل المعنى تجربة، لا فكرة مجردة.


لا تبحث عن إجابة فلسفية لمعنى الحياة، بل عش تجربة تمنحك إحساسًا داخليًا بأن الحياة تستحق أن تُعاش.




4. تبنَّ موقف الفنان، لا موقف المتأمل السلبي.


الفيلسوف التقليدي يحاول فهم العالم، لكن الفنان يعيد خلقه. لا تكن مجرد محلل، بل كن صانعًا لحياتك.





إذا لم يكن للحياة معنًى جاهز، فهذا لا يعني أن علينا أن نستسلم للعبث، بل يعني أننا أحرار في خلق المعنى الذي يناسبنا، دون الحاجة إلى تبريره بأي شيء خارجي. لا نحتاج إلى إيمان أعمى، ولا إلى يقين مطلق، بل إلى إرادة تجعلنا نرسم أشكالًا جديدة من الوجود، كما يفعل الفنان مع لوحته، وكما يفعل العازف مع نغماته.


المعنى ليس شيئًا نبحث عنه، بل هو شيء نصنعه ثم نمنحه قيمة من خلال عيشه بصدق، دون الحاجة إلى تصديق أنه الحقيقة المطلقة.

الفصل الرابع: المعنى بوصفه فعلًا – نحو تجاوز السؤال ذاته


1. لماذا لا يكفي خلق المعنى؟


في الفصول السابقة، تحررنا من وهم وجود معنى موضوعي، ثم انتقلنا من البحث إلى الخلق، لكننا ما زلنا أمام مشكلة أعمق: حتى لو صنعنا معانينا الخاصة، لماذا يجب أن نأخذها بجدية؟


إذا كان المعنى مجرد بناء ذهني، فهل نحن فقط نخدع أنفسنا بشكل أكثر تعقيدًا؟ وهل كل معنى نخلقه محكوم عليه بالزوال عندما ندرك أنه ليس سوى وهم اخترعناه؟ هنا، يصبح التحدي الحقيقي ليس فقط في خلق المعنى، بل في عيشه كما لو كان حقيقيًا، رغم وعينا التام بأنه ليس كذلك.


2. الإرادة كجوهر للمعنى – كيف نتجاوز الشك؟


إن حل هذه الإشكالية لا يكمن في إيجاد إجابة فلسفية، بل في تبنّي موقف إرادي تجاه الحياة. لا يجب أن ننتظر أن يكون المعنى "حقيقيًا" حتى نعيشه، كما لا ينتظر الممثل أن تكون القصة التي يؤديها "حقيقية" حتى يندمج في دوره. نحن لا نحتاج إلى يقين منطقي، بل إلى التزام وجودي بما نخلقه.


نيتشه أدرك هذه النقطة عندما تحدّث عن "إرادة القوة"، حيث لا تكون الحقيقة هي المقياس، بل القوة التي تمنحها لنا فكرة ما. الفكرة التي تجعلنا نعيش بقوة، بإبداع، بشغف، تكون ذات معنى، حتى لو كانت بلا أي أساس موضوعي. الأمر لا يتعلق بما إذا كان المعنى حقيقيًا أو مزيفًا، بل بما إذا كان قادرًا على دفعنا للحياة بحيوية أم لا.


3. كيف نتعامل مع هشاشة المعاني؟


كل المعاني التي نصنعها هشة، قابلة للانهيار في أي لحظة. قد نستيقظ يومًا ونجد أن ما كان يمنح حياتنا معنى قد فقد بريقه. لكن هل يعني ذلك أننا يجب أن نتوقف عن خلق معانٍ جديدة؟


هنا، يكمن الفارق بين من يبحث عن "معنى ثابت ونهائي"، وبين من يفهم أن المعاني تأتي وتذهب، وأن هذا ليس ضعفًا، بل جزء من طبيعة الحياة ذاتها. يمكننا أن نعيش تجارب مختلفة، نصنع معاني متعددة، ونتنقل بينها دون أن نشعر بالخيانة لذاتنا، لأننا ندرك أن التغيير ليس فشلًا، بل هو دليل على أننا أحياء.


الموسيقي لا يتوقف عن العزف لأن لحنه الأول انتهى، والراقص لا يتوقف عن الرقص لأن الحركة السابقة انتهت، فلماذا يجب أن نتوقف عن خلق المعنى لمجرد أن بعض المعاني القديمة سقطت؟


4. الحرية والمسؤولية في عالم بلا معنى موضوعي


إذا لم يكن هناك معنى يُفرض علينا من الخارج، فإننا نصبح أحرارًا تمامًا، لكننا أيضًا مسؤولون بالكامل عن كيفية عيشنا. العدمية التقليدية تخبرنا أن غياب المعنى يجعل كل شيء بلا قيمة، لكن الحرية الحقيقية تكمن في إدراك أن غياب المعنى الموضوعي هو ما يمنحنا القدرة على خلق قيمنا الخاصة دون قيود.


المشكلة أن الحرية الكاملة مخيفة، لأن الكثير من الناس لا يريدون تحمّل مسؤولية اختياراتهم، بل يفضلون أن تكون هناك "حقيقة عليا" تمنحهم المبرر لما يفعلونه. لكن القوي ليس من يجد الحقيقة، بل من يقرر أن يكون هو مصدر المعنى لحياته، حتى لو كان يعلم أن كل ذلك ليس إلا لعبة كبرى.


خاتمة: ما بعد السؤال – الحياة كفن، لا كمعادلة


إذا كان هذا البحث قد بدأ بالسؤال عن معنى الحياة، فقد انتهى إلى إدراك أن السؤال نفسه هو المشكلة. ليس علينا أن نجد "معنى" للحياة، بل أن نعيشها وكأنها عمل فني، لوحة مفتوحة، رقصة لا تحتاج إلى غاية سوى أن نكون داخلها بالكامل.


الحياة ليست اختبارًا نحتاج إلى حله، ولا لغزًا نحتاج إلى فك شيفرته، بل هي فرصة لصناعة شيء فريد، ثم عيشه بكل طاقتنا. ليس علينا أن نؤمن بمعنى مطلق، لكن يمكننا أن نؤمن بقدرتنا على أن نجعل الحياة تجربة تستحق أن تُعاش، ليس لأن هناك سببًا، بل لأننا نحن من نقرر ذلك.

وهنا، يتوقف السؤال ليبدأ الفعل.


عزالدين خليل


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"مأساة صبايحي وجدي وصبايحي خالد في سطيف: عندما يُسقط العنف آخر أقنعة الإنسان"

عزالدين خليل - الإنسان بين العبث والتطور: قراءة نقدية في أصل الوجود-Man Between Absurdity and Evolution: A Critical Inquiry into the Origins of Existence