"مأساة صبايحي وجدي وصبايحي خالد في سطيف: عندما يُسقط العنف آخر أقنعة الإنسان"

"مأساة ( صبايحي) خالد و وجدي وصبايحي  في سطيف: عندما يُسقط العنف آخر أقنعة الإنسان"




دراسة تحليلية للجريمتين في سطيف: تفكيك الظاهرة الاجتماعية والنفسية.

شهدت ولاية سطيف في الجزائر جريمتين مأساويتين خلال أسبوعين فقط ، حيث راح ضحيتهما شابان يحملان الاسم نفسه، صبايحي. الحادثة الأولى وقعت في حي عين الطريق، حيث أقدم رجل على قتل شقيقه فجرًا نتيجة خلاف عائلي. أما الحادثة الثانية، فقد كانت في حي 583 مسكن وسط مدينة عين ولمان، حيث تعرّض الشاب وجدي صبايحي لإطلاق نار أودى بحياته قبل موعد الإفطار.

يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل معمق لهذه الجرائم من منظور اجتماعي ونفسي، مع محاولة استقصاء العوامل التي أدت إلى تفشي مثل هذه الحوادث، وذلك باستخدام منهجية تحليلية تجمع بين الأبعاد السيكولوجية، السوسيولوجية، والجنائية.

 السياق الاجتماعي والثقافي


يُعد المجتمع الجزائري، مثل باقي المجتمعات العربية، مجتمعًا يقوم على الروابط الأسرية القوية، إلا أن هذه الروابط تشهد تآكلًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة نتيجة التغيرات الاقتصادية، الاجتماعية، والتكنولوجية. بات العنف الأسري أكثر انتشارًا، وأصبحت الخلافات تُحلّ بطرق متطرفة بدلًا من الحوار والوسائل السلمية.


في جريمة عين الطريق، نجد أن الخلافات الأسرية تحولت إلى نزاع دموي انتهى بقتل الأخ لأخيه، وهو فعل يتناقض مع القيم الدينية والاجتماعية التي تحث على التضامن العائلي. أما في جريمة عين ولمان، فقد شهدنا نوعًا آخر من العنف، وهو القتل العمد باستخدام سلاح ناري، ما يعكس تصعيدًا خطيرًا في أساليب الجرائم داخل المجتمع.

. التحليل النفسي للجناة

. العوامل الدافعة للقتل داخل الأسرة

وفقًا لنظريات علم النفس الجنائي، فإن جرائم القتل بين أفراد الأسرة غالبًا ما تكون نتيجة تراكم طويل من النزاعات غير المحلولة، والإحباطات المتكررة التي تؤدي في النهاية إلى انفجار عدواني غير قابل للسيطرة. إن قتل الأخ لأخيه في حي عين الطريق يعكس أزمة نفسية معقدة، حيث قد يكون الجاني يعاني من اضطرابات مثل اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (Antisocial Personality Disorder) أو اضطرابات في التحكم في الغضب.

. العنف الموجه ضد الآخر


في حالة وجدي صبايحي، فإن استخدام السلاح الناري يشير إلى مستوى مختلف من الجريمة، حيث يكون الجاني غالبًا أكثر تخطيطًا وأقل عاطفية مقارنة بالجرائم العائلية التي تتم بدافع الغضب اللحظي. هنا، يمكن أن يكون الجاني شخصًا يحمل دوافع انتقامية أو لديه استعداد نفسي للقتل دون ندم، وهو ما يمكن ربطه بنظرية "التجرد العاطفي"، حيث يفقد القاتل القدرة على التعاطف مع الضحية.

. الدلالات السوسيولوجية للجرائم

. التغيرات القيمية في المجتمع الجزائري

تعكس هذه الجرائم تحولًا في القيم الاجتماعية التقليدية، حيث أصبحت النزاعات تُحلّ بالعنف بدلاً من التسويات السلمية. قد يكون ذلك ناتجًا عن التوترات الاقتصادية، الضغط النفسي، والتفكك الأسري، وكلها عوامل تؤدي إلى تراجع الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية.

. انتشار الأسلحة النارية وعلاقته بتصاعد العنف


إن استخدام السلاح الناري في جريمة عين ولمان يشير إلى مشكلة أعمق تتعلق بانتشار الأسلحة في أيدي الأفراد، مما يسهل ارتكاب الجرائم ويفاقم حدتها. فاللجوء إلى العنف المسلح بدلاً من الصراع الكلامي يدل على مستوى متقدم من التطرف السلوكي داخل المجتمع.

. التفكيك الفلسفي للظاهرة


من منظور فلسفي، تعكس هذه الجرائم أزمة في مفهوم "الإنسانوية" داخل المجتمع. إن قتل الأخ لأخيه، وقتل الإنسان لجاره أو قريبه، يعكس انحدارًا في الوعي الإنساني، حيث أصبح العنف وسيلةً لحل النزاعات بدلاً من الحوار.


يتجلى هنا سؤال جوهري: هل الإنسان مجبول على العنف؟ أم أن الظروف الاجتماعية والنفسية هي التي تدفعه نحو هذا المسار؟ بالنظر إلى الجرائم التاريخية والحديثة، نجد أن العنف ليس استثناءً بل جزء من الطبيعة البشرية، لكنه يتفاقم عندما تغيب القوانين الرادعة، وينهار البناء الأخلاقي للمجتمع.


تُعد جرائم القتل التي شهدتها ولاية سطيف مؤشرًا خطيرًا على التحولات الاجتماعية والنفسية التي يمر بها المجتمع الجزائري. إن تصاعد العنف داخل الأسر وفي الشوارع يتطلب تدخلًا عاجلًا من الجهات المعنية من خلال:


1. تعزيز الوعي الاجتماعي: عبر حملات توعية حول أهمية التسامح، والتحكم في الغضب، وحل النزاعات بطرق سلمية.

2. تشديد القوانين الخاصة بحيازة الأسلحة: للحد من إمكانية استخدام الأسلحة النارية في الجرائم.

3. توفير الدعم النفسي والعلاج السلوكي: خاصةً للأفراد الذين يظهر عليهم سلوك عدواني أو اضطرابات نفسية قد تؤدي إلى العنف

4. تعزيز دور الأسرة والمجتمع: في خلق بيئة داعمة للأفراد تمنع اللجوء إلى العنف كحل للنزاعات

إن هذه الجرائم ليست مجرد حوادث فردية، بل تمثل انعكاسًا لمشكلات بنيوية أعمق تحتاج إلى تحليلٍ شامل وحلولٍ جذرية قبل أن تصبح هذه الظاهرة جزءًا من الواقع اليومي الذي لا يمكن التراجع عنه.

استراتيجيات جذرية للقضاء على العنف واستعادة إنسانية المجتمع


العنف ليس مجرد أفعال منعزلة، بل هو انعكاس لتصدع في البنية العميقة للمجتمع. حين يقتل الإنسان شقيقه، أو يصفي قريبه بدمٍ بارد، فهذا ليس حدثًا عرضيًا، بل إعلانٌ عن فشلٍ أخلاقي، وانهيار منظومة القيم التي يفترض أن تحكم العلاقات بين البشر. إن هذه الجرائم التي شهدتها سطيف، سواء في عين الطريق أو عين ولمان، ليست سوى أعراض مرضٍ متفشٍّ يجب اجتثاثه من جذوره.


لكن كيف؟


الردع القانوني وحده غير كافٍ. العقوبات قد توقف الجريمة مؤقتًا، لكنها لا تمنع ولادة مجرمين جدد. المطلوب هو تفكيك منظومة العنف من الداخل، عبر بناء بيئة تحاصر النزعة الإجرامية قبل أن تتجسد في فعل. ما يلي هو رؤية استراتيجية متكاملة، لا تعتمد على رد الفعل، بل على استباق الحدث وصياغة مجتمعٍ يمنع العنف من الأساس.



1. تفكيك آليات العنف الأسري والمجتمعي


العائلة هي اللبنة الأولى التي يُبنى فيها الإنسان، فإذا كانت مختلة، خرج منها أفراد مهشمون، لا يعرفون سوى لغة القهر والانتقام. ولذلك، فإن الإصلاح يبدأ من هناك، حيث يجب:


تحويل الأسرة من ساحة صراع إلى بيئة تواصل:

لا أحد يولد قاتلًا، لكن العنف يبدأ حين يُربى الطفل على  القسوة، على أن الغضب لا يُحل إلا بالضرب، وعلى أن الذكورة لا تعني السيطرة. يجب إدخال برامج تدريب على التربية غير العنيفة، تستهدف الآباء والأمهات، لتعليمهم كيفية إدارة الخلافات داخل الأسرة بدون اللجوء إلى القهر الجسدي أو النفسي.


إعادة تعريف مفهوم السلطة داخل الأسرة:

بدل أن تكون علاقة الأهل بأبنائهم مبنية على الترهيب والخضوع، يجب أن تقوم على الحوار والفهم المتبادل. عندما يشعر الطفل بأنه مفهوم، لن يكبر وهو يرى الآخرين كأعداء يجب سحقهم عند أي خلاف.

2. تفكيك العلاقة بين الفقر والجريمة


لا يمكن إنكار أن العنف يتغذى على البؤس. حين يشعر الإنسان بأنه مُستبعَد، مُهان، لا قيمة له، فإنه يتحول إلى قنبلة موقوتة، تنفجر عند أول فرصة. لن يكون هناك أمن حقيقي ما لم يكن هناك اقتصادٌ عادل. ولذلك، يجب:


خلق مشاريع تشغيل تلغي شعور العجز لدى الشباب:

البطالة ليست مجرد نقصٍ في المال، بل هي تحطيمٌ لكرامة الإنسان، وسلبٌ لحقه في أن يكون فاعلًا في مجتمعه. لا يمكن محاربة العنف دون تقديم فرص عمل حقيقية، لا مجرد وعود خاوية.


فرض ضرائب على الشركات الكبرى لتمويل برامج توظيفية:

بدلاً من أن تتكدس الثروات في أيدي قلة، يجب أن يتم إعادة توزيع الموارد بحيث تصل إلى الفئات الأكثر عرضة للانحراف والجريمة.


3. إعادة هندسة النظام القانوني ليكون وقائيًا لا انتقاميًا


القوانين غالبًا ما تكون مجرد رد فعل، تأتي بعد وقوع الجريمة لمعاقبة المجرم، لكنها لا تفعل شيئًا لمنع وقوع الجريمة من الأساس. المطلوب هو نظام قانوني جديد، قائم على الوقاية لا العقاب فقط.


مراقبة النزاعات الأسرية قبل أن تتحول إلى جرائم:

أي خلاف عائلي خطير يجب أن يكون تحت رقابة مختصين اجتماعيين، يتدخلون قبل أن يصل الأمر إلى القتل. لو تم التدخل مبكرًا في حالات مثل جريمة عين الطريق، ربما كان يمكن منع الأخ من قتل شقيقه.


تصنيف الجرائم العائلية كجرائم تهدد الأمن القومي:

لأن قتل الأخ لأخيه أو القريب لقريبه ليس مجرد "خلاف شخصي"، بل هو مؤشر على انهيار اجتماعي عميق.


4. تفكيك العنف من داخله: إصلاح العقلية قبل العقوبة


لا أحد يستيقظ صباحًا ليقرر أن يصبح قاتلًا. الجريمة تبدأ من تراكمات نفسية، من إحساسٍ متزايد بالقهر، من تربية جعلت العنف يبدو كأنه الخيار الوحيد. ولذلك، يجب:


إجبار المدانين بجرائم العنف على الخضوع لإعادة تأهيل نفسي مكثف:

السجون اليوم لا تصلح المجرمين، بل تجعلهم أكثر عنفًا. يجب أن يتحول السجن إلى مكان لإعادة برمجة العقلية الإجرامية، بحيث يخرج منه السجين بفكرٍ مختلف، لا بحقدٍ أعمق.


إعادة تشكيل صورة القوة والرجولة في الوعي الجماعي:

في كثير من الأحيان، يُربى الطفل على أن "القوي هو الذي يفرض سيطرته بالقوة"، مما يجعله يرى العنف كإثباتٍ للذات. يجب أن يتم إعادة تشكيل هذه المفاهيم، بحيث تكون القوة في الحكمة، لا في البطش.

5. القضاء على العزلة الاجتماعية التي تولّد الوحوش


العنف ليس مجرد نتاج للغضب، بل هو نتاجٌ للوحدة. القاتل في كثير من الأحيان هو شخص انعزل عن المجتمع، لم يعد يرى في الآخرين سوى تهديدٍ يجب القضاء عليه. ولذلك، يجب:


خلق مساحات تفاعلية تمنع الشباب من السقوط في العزلة القاتلة:

في كثير من الأحياء الفقيرة، لا توجد أماكن للشباب سوى الشوارع. يجب أن تكون هناك مراكز مجتمعية، حيث يمكن للشباب ممارسة الرياضة، تعلم مهارات جديدة، أو حتى مجرد إيجاد أشخاص يمكنهم الحديث معهم.


تفعيل "الدوائر الاجتماعية الوقائية":

يجب أن يكون لكل حيٍّ مجموعة دعمٍ اجتماعية، تتكون من متطوعين يمكن لأي شخص اللجوء إليهم إذا كان يشعر بأنه على حافة الانهيار.

6. خلق إعلام يعيد للإنسان وعيه بإنسانيته


الإعلام اليوم لا ينقل الواقع فقط، بل يشكله. حين تصبح الجرائم مجرد أخبارٍ تُستهلك بسرعة، دون أن يتم تحليلها بعمق، فإنها تفقد تأثيرها الأخلاقي، وتصبح مجرد أرقام. ولذلك، يجب:


تحويل الإعلام إلى أداة تحليل، لا مجرد ناقل للأحداث:

يجب أن تتوقف الأخبار عن كونها مجرد سردٍ لجرائم العنف، بل يجب أن تتحول إلى محاولة لفهم لماذا وقعت الجريمة، وما الذي يمكن فعله لمنع تكرارها.


منع تمجيد العنف في الأفلام والمسلسلات:

يجب أن تتوقف السينما عن تصوير القاتل كـ"بطل"، وعن تقديم القتل كحلٍ مقبول للمشاكل.

الخاتمة: نحو مجتمع جديد، لا يولّد القتلة


إن أي جريمة قتل ليست مجرد حادثة منفصلة، بل هي نتيجة لسلسلة طويلة من الإخفاقات، في التربية، في الاقتصاد، في القانون، وفي الإعلام. لن ينتهي العنف ما لم يتم تفكيك النظام الذي يسمح له بالوجود. 

نحن لا نحتاج إلى مزيد من السجون، ولا إلى مزيد من العقوبات المشددة، بل نحتاج إلى ثورة شاملة في طريقة فهمنا للمجتمع. المجتمع العادل لا يحتاج إلى الردع، لأن العنف لا ينشأ فيه أصلًا. المطلوب إذن ليس مجرد منع الجريمة، بل بناء إنسان جديد، لا يرى العنف كخيار، ولا يحتاجه ليشعر بأنه موجود.


عزالدين خليل



 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما معنى الحياة

عزالدين خليل - الإنسان بين العبث والتطور: قراءة نقدية في أصل الوجود-Man Between Absurdity and Evolution: A Critical Inquiry into the Origins of Existence