"الاستنزاف البطيء: كيف يبتلع المجتمع أفراده بلا صوت"

في أعماق مجتمع ينهش نفسه، حيث تتآكل الأرواح كما يتآكل الخشب الرطب تحت المطر، يجد الفرد نفسه عالقًا في طاحونة لا ترحمه، تدور بلا نهاية، بلا معنى. في هذا المجتمع، الاستنزاف ليس عنيفًا، بل متسلل، أشبه بتقطير الماء فوق الحجر، لا تشعر به إلا حين تنظر إلى نفسك في المرآة ذات صباح وتدرك أنك لم تعد كما كنت.


يبدأ الأمر بالضغط اليومي، تلك التفاصيل الصغيرة التي تبدو تافهة لكنها تتراكم كالغبار على الروح. يُطلب منك أن تكون جزءًا من النظام، أن تتكيف، أن تؤمن بما يؤمن به الجميع، أن تبتسم حين يجب عليك أن تبتسم، أن تبكي حين يجب عليك أن تبكي، لكن لا تبالغ، لا تكن مختلفًا، لا تكن أكثر مما هو مسموح لك أن تكون.


ثم يأتي الاختناق، لا بمعناه الجسدي، بل ذلك الاختناق الذي يثقل القلب، يجعلك تتحدث بصوت أخفض، تخشى أن تعبّر عن فكرة لأن الفكرة نفسها قد تكون تهمة. يُنظر إليك باشمئزاز إن تساءلت، إن شككت، إن فكّرت أبعد مما يسمح به سقف الوجود المرسوم سلفًا. فأي حق لك في التفكير أصلاً؟ ألم يولد العالم قبل أن تولد؟ ألم يحددوا لك ما هو صحيح وما هو خطأ؟ فلماذا تتعب نفسك؟


وفي النهاية، يأتي الانهيار الصامت. ليس بالضرورة أن يكون صراخًا أو احتجاجًا، بل قد يكون مجرد نظرة فارغة في قطار مكتظ، أو جلوسًا لساعات على كرسي دون حراك، أو نسيانًا مفاجئًا لكلمات اعتدت قولها بسهولة. يُستنزف الفرد حتى يصبح شبحًا لنفسه، يسير بين الناس لكنه ليس منهم، يتحدث لكنه لا يسمع، يعيش لكنه لم يعد حيًا.


هكذا، ببطء، دون ضجة، يبتلع المجتمع أبناءه، لا بأسنان مفترسة، بل بلزوجة العادات والخوف والامتثال. ومن يدرك هذه الحقيقة؟ القلة، تلك القلة التي تظل يقِظة، لكنها تدرك أيضًا أن يقظتها لعنة، وأنها إن تحدثت، إن صرخت، فإن المجتمع سيمدّ يده، لا لإنقاذها، بل ليجرّها نحو القاع، حيث تستكين الأرواح المستنزفة، حيث لا حاجة للصراخ بعد الآن.

عزالدين خليل 


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"مأساة صبايحي وجدي وصبايحي خالد في سطيف: عندما يُسقط العنف آخر أقنعة الإنسان"

ما معنى الحياة

الوعي ليس سرًا ميتافيزيقيًا: الإنسان امتداد مادي للكون"