الوجود بوصفه احتمالية متراكبة
الوجود بوصفه احتمالية متراكبة –
1. مقدمة: سقوط السرديات التقليدية
لطالما حاول الإنسان القبض على جوهر الوجود عبر أنظمة فكرية متباينة، بين فلسفات تدعي جوهرًا ثابتًا وعلم يطمح إلى تفسير كل شيء عبر معادلات حتمية. غير أن كل هذه المحاولات تحطمت عند أول احتكاك حقيقي مع الطبيعة اللايقينية للواقع. كانت هناك أوهام حول معنى ثابت، وحتمية تقود كل شيء، وحقيقة تنتظر من يكتشفها. غير أن ما نراه الآن هو انهيار هذه الأوهام تحت ثقل التجربة والرياضيات، حيث الوجود نفسه يتبدى بوصفه احتمالًا متراكبًا، لا شيئًا ثابتًا أو محددًا مسبقًا.
لقد قيل كثيرًا إن الكون عبثي، وإن كل محاولة لمنحه معنًى ليست سوى مقاومة يائسة أمام فراغه اللامتناهي. لكن حتى هذا القول نفسه يفترض أن هناك "كونًا واحدًا" بهذه المواصفات. ماذا لو لم يكن هناك كون واحد؟ ماذا لو كان ما نراه ونحياه ليس إلا شظية من لا نهائية محتملة، كل واحدة منها تتبدى في لحظة إدراكها فقط؟
2. الوجود ليس حالة مفردة، بل تراكب احتمالات
عندما تنظر إلى شيء ما، فأنت تفترض أنه كان هناك قبل أن تنظر إليه. هذا افتراض مريح، لكنه ليس بالضرورة صحيحًا. التجارب أثبتت أن ما هو "موجود" يتحدد لحظة الملاحظة. قبلها، ليس هناك شيء واضح المعالم، بل طيف من الإمكانيات. الواقع نفسه لا يُعطى دفعة واحدة، بل يتشكل كلما التفتنا إليه. وهذا يقود إلى استنتاج مذهل: الوجود ليس حالة، بل احتمالية. ليس هناك شيء واحد، بل تراكب من اللايقين، وكل محاولة لحسم هذا اللايقين هي ما نسمّيه "الواقع".
لو وسّعنا هذا المفهوم من الذرة إلى الكون، سنصل إلى فكرة أن الواقع الذي نراه ليس إلا نسخة منهارة من تعدد لا نهائي من الاحتمالات الممكنة. أي أن كل شيء حولنا ليس "هو"، بل "كان يمكن أن يكون غيره"، ووجوده بوصفه ما هو عليه ليس إلا نتيجة لانهيارٍ في بحر الاحتمالات.
3. تحطيم مفهوم الحقيقة الأحادية
منذ القدم، كان هناك هوس بالحقيقة الواحدة. إما أن هناك معنى مطلقًا أو لا معنى على الإطلاق. إما أن هناك نظامًا يحكم كل شيء أو أن كل شيء فوضى. لكن هذه الثنائية لم تكن سوى نتاج تفكير لم يستوعب أن كلا النقيضين قد يكونان صحيحين في آنٍ واحد.
ما نراه الآن هو تحطيم لهذا التصور. لم يعد هناك معنى واحد ولا عبث واحد. بل هناك شبكة لا نهائية من التجليات، كل واحدة منها تظن أنها الحقيقة بينما هي ليست سوى انعكاس للاحتمال الذي تم التقاطه في لحظة معينة. هذا يعني أن الواقع ليس أحاديًا، بل متشعب، وليس هناك حقيقة واحدة بل احتمالات تتجسد وفق ظروف محددة، دون أن يكون لأي منها امتياز جوهري على غيره.
4. الزمن ليس خطيًا، بل تشابك متزامن للأحداث
لطالما كان الزمن عائقًا أمام إدراكنا لحقيقة الوجود. نراه وكأنه خط يمتد من الماضي إلى المستقبل، ونسجن وعينا ضمنه كما لو كان حقيقة مطلقة. لكن حين ننظر إليه بعمق، نجد أنه مجرد وهم إدراكي.
التجارب أثبتت أن الماضي والمستقبل ليسا كيانين منفصلين، بل إن الحاضر ذاته قد يحدد الماضي، تمامًا كما يحدد المستقبل. الزمن لا يسير في اتجاه واحد، بل هو تراكب من الإمكانيات التي تتشابك لحظة الإدراك. وما نعتبره "تسلسلاً زمنيًا" ليس إلا نتيجة لهيكلة وعينا، وليس خاصية أصيلة في الوجود نفسه.
إذا كان الزمن نفسه غير محدد، فهذا يعني أن الحتمية تنهار تمامًا. ليس هناك شيء "قد كُتب" مسبقًا، وليس هناك شيء "يجب أن يحدث"، بل هناك نسيج ديناميكي من الإمكانيات، يتم حياكته لحظة بلحظة دون تصميم مسبق.
5. الإنسان كاحتمال متغير لا كهوية ثابتة
ما ينطبق على الكون ينطبق على الإنسان. ليس هناك "أنا" ثابتة، بل مجموعة من التغيرات المتراكبة، كل واحدة منها تظن أنها الكيان الوحيد بينما هي ليست سوى لحظة في تدفق الاحتمالات.
كل شعور، كل فكرة، كل إحساس بالهوية ليس إلا نقطة في شبكة أكبر، تتغير باستمرار دون أن تكون لها "حقيقة" نهائية. وبالتالي، فإن كل محاولة لتعريف الإنسان من خلال ماهية ثابتة ليست سوى إسقاط قاصر على كيان لا يمكن حصره. الإنسان ليس جوهرًا، بل حركة، ليس كيانًا مكتملًا، بل حالة متغيرة في تدفق الزمن المتشعب.
6. ماذا يعني هذا بالنسبة للوجود؟
إذا كان كل شيء تراكبًا من الاحتمالات، وإذا كان الواقع لا يتحدد إلا لحظة إدراكه، فإن كل تصورنا عن "المعنى" و"الحقيقة" يجب أن يتغير. لم يعد بالإمكان الحديث عن وجود "صحيح" أو "خاطئ"، بل فقط عن إمكانيات تتجسد وفق سياقات محددة.
بناءً على ذلك، ليس هناك عبث مطلق ولا معنى مطلق، ليس هناك كيان ثابت ولا فوضى خالصة. بل هناك شيء آخر: نسيج متغير من الاحتمالات التي لا تحتاج إلى تفسير نهائي، لأنها لا تستقر أبدًا في صورة واحدة.
وهنا، يمكن استنتاج أمر جوهري: الوجود ليس سؤالًا يبحث عن إجابة، بل هو إمكانية تتجلى دون أن تحتاج إلى يقين نهائي.
عزالدين خليل
تعليقات
إرسال تعليق