العائد إلى العدم - Back to the Void
العائد إلى العدم
أنا خليل، وأكتب الآن لأنني لم أعد أملك سوى الكتابة. أكتب كما يغرق الغريق، لا أملاً في النجاة، بل لأن الحركة وحدها تمنحه وهم البقاء على قيد الحياة للحظة أخرى. أنا هنا، على الورق، لأني لم أعد هناك، حيث كان العالم يمضي بي كعربة مهترئة على سكةٍ صماء، وأنا داخلها، متكورٌ كفكرة لم تكتمل، كطفل لم يولد، كجسد لم يعش يومًا حقًا.
لكن، هل أنا حقًا هنا؟ هل الكلمات التي أكتبها الآن أنا؟ هل يمكن للإنسان أن يكون في أي مكان، أم أنه محض ظل، يتبع ذاته بلا إرادة، يسير في حياته كما لو كانت حلمًا لا يخصه؟ أحيانًا أشعر أنني مجرد فكرة عابرة خطرت في ذهن شخص ما، ثم نسيها، وتركني هنا، أتخبط وحدي في فراغ الوجود.
هناك لحظة، أعرفها جيدًا، لحظة يولد فيها الوعي كخنجرٍ ينغرس في صدر المرء. ليست لحظة الفرح الأول، ولا الحب الأول، ولا حتى الفقد الأول، بل لحظة الإدراك العاري: عندما ينكشف العالم فجأة، بلا مساحيق، بلا أقنعة، لحظة تنظر فيها إلى كل شيء، فترى أنه لم يكن هناك شيء منذ البداية. لا شيء سوى قشور تتساقط، قيمٌ جوفاء، قوانين ميتة، حقائق مشوهة، وأنت، واقفٌ وسط كل ذلك، تحاول أن تفهم لماذا خُدعت بكل هذا، ولماذا خدعت نفسك، ولماذا كنت تظن، يومًا ما، أن الحياة أكثر من مجرد صدى لصوتك الداخلي وهو يصرخ في الفراغ.
أعرف تلك اللحظة، لأنني كنتُ هناك، لأنني مررتُ بها، لأنني أدركتُها قبل أوانها، حين لم يكن من المفترض أن أدرك شيئًا بعد.
عندما كنتُ طفلًا، لم أكن أفهم معنى العالم، لكنني كنتُ أشعر بثقله فوقي. كنتُ أحمل الطوب في يدين صغيرتين لا تصلحان لشيء سوى اللعب، كنتُ أسمع صرخات والدي تزلزل رأسي، كنتُ أراقب العرق يقطر من جبهة الرجال المتعبين، وأحاول أن أفهم: لماذا؟ لماذا تبدو الحياة وكأنها عقاب لم نعرف جريمتنا فيه؟ لماذا يعمل الجميع حتى تتشقق أيديهم، ثم يعودون في اليوم التالي وكأنهم لم يتألموا يومًا؟
في البداية، كنتُ أظن أنني الوحيد الذي يشعر بأن هناك خطأ ما. كنتُ أراقب الآخرين، أحاول أن أجد في وجوههم أثرًا لهذا السؤال الذي يطاردني، لكنني لم أجد شيئًا. كانوا يضحكون، يشربون الشاي في الاستراحات، يتحدثون عن أشياء لم أفهمها، أشياء بدت لي سخيفة، تافهة، مجرد أصوات تملأ الفراغ.
ثم أدركتُ الحقيقة: ليس لأنهم لا يشعرون، بل لأنهم تعلموا ألّا يفكروا. لأنهم، في لحظة ما، قرروا أن يتوقفوا عن التساؤل، عن البحث، عن مواجهة ذلك الفراغ الرهيب الذي يبتلع كل شيء حين ننظر إليه مباشرةً. لم يكن أحد يريد أن يعرف، لأن المعرفة لا تجلب شيئًا سوى العذاب.
أما أنا، فلم أستطع أن أغلق عيني.
كبرتُ وأنا أحمل هذا الثقل، هذا السؤال الذي لم أجد له جوابًا، هذه الهوة التي كنتُ أشعر بها تتسع داخلي يومًا بعد يوم. عندما دخلتُ الجامعة، كنتُ أبحث عن شيء، أي شيء، يمسك بيدي، يخبرني أنني لستُ مجنونًا، أن العالم ليس بهذه الفوضى. درستُ الفلسفة كما يدرس الغريق كيفية السباحة بعد أن يبتلعه البحر. قرأتُ نيتشه، فوجدتُ فيه صدى لحيرتي، قرأتُ كامو، فوجدتُ عنده العبث الذي كنتُ أعيشه، قرأتُ سيوران، فأدركتُ أنني لم أكن وحيدًا، لكنني لم أكن بحاجة إلى معرفة أن هناك آخرين يعانون مثلي، كنتُ بحاجة إلى شيء لم أجده في أي مكان: إلى معنى.
لم أجده.
تركتُ الجامعة بعد عامين. لم أكن بحاجة إلى شهادات تثبت أنني قادر على فهم خواء الوجود. ما الجدوى؟ لا أحد يهتم. لا أحد يحتاج إلى مترجمٍ يعيد صياغة الكلمات في عالم لم يعد للكلمات فيه أي معنى.
عدتُ إلى الحياة التي هربتُ منها. عدتُ إلى الورش، إلى الطلاء، إلى الألوان التي كنتُ أضعها فوق جدران لم أكن أملكها. كنتُ أضحك أحيانًا، عندما أدهن بيتًا جديدًا، وأقول لنفسي: "أنا، الذي لا يؤمن بأي شيء، ألون الجدران كي يشعر الآخرون بالراحة."
أي سخرية هذه؟
أحيانًا كنتُ أتساءل: هل هناك طريق آخر؟ هل كنتُ سأكون شخصًا مختلفًا لو وُلدتُ في بيتٍ آخر، في زمانٍ آخر؟ هل كنتُ سأكون سعيدًا لو لم أرَ ما رأيته، لو لم أفكر كما فكرت؟ لكنني كنتُ أعرف الجواب مسبقًا. الإنسان لا يختار الطريقة التي يرى بها العالم، إنها تُزرع داخله كما يُزرع الشوك في حقلٍ جاف. ربما لو كنتُ شخصًا آخر، لما كنتُ بحاجة إلى طرح هذه الأسئلة، لكنني، لسوء الحظ، كنتُ أنا.
وكانت هناك أيام، أيام طويلة، صامتة، كنتُ أجلس فيها وحدي، في غرفتي، أنظر إلى الجدران التي صبغتها بيدي، وأفكر: هل أنا موجود؟ هل أنا هنا حقًا؟ وإن كنتُ هنا، فلماذا؟ ماذا يفعل المرء حين يدرك أن لا شيء يستحق العناء؟ كيف يعيش وهو يعرف أن النهاية واحدة، وأن كل الطرق تقود إلى ذات العدم؟
كنتُ أرى الناس يمشون في الشوارع، يضحكون، يخططون للمستقبل، وكأنهم يؤمنون بأن هناك شيئًا ينتظرهم، شيئًا يستحق كل هذا. كنتُ أشفق عليهم أحيانًا، وأحسدهم أحيانًا. كيف استطاعوا أن يخدعوا أنفسهم بهذه السهولة؟ كيف استطاعوا أن يؤمنوا بشيء لم أعد أستطيع حتى تخيله؟
لكنني، رغم كل هذا، لم أمت تمامًا.
كان هناك شيء داخلي، شيء غامض، لا أعرف كيف أسميه. ربما لم يكن أملًا، لأن الأمل كان رفاهية لم أعد أملكها، لكنه لم يكن يأسًا أيضًا. كان شيئًا آخر، شيئًا يشبه انتظارًا بلا انتظار، ترقبًا لشيء لا أعرفه، لا أؤمن به، لكنه، رغم ذلك، يواصل الوجود داخلي.
هل كان هذا هو الخيط الأخير الذي أبقاني على قيد الحياة؟ هل كان هذا هو السر الذي يجعل الإنسان يستمر رغم كل شيء؟ أم أنني كنتُ، ببساطة، أعيش فقط لأنني لم أجد طريقة أفضل للموت؟
لا أعرف.
كل ما أعرفه أنني هنا، أكتب هذه الكلمات، أتركها على الورق كأثرٍ لشخصٍ لم يكن يومًا متأكدًا من وجوده. ربما سيقرأها أحدهم يومًا ما، وربما لن يقرأها أحد. لكن ذلك لا يهم.
لأنني، في النهاية، كنتُ مجرد عابر، ظلٌّ في طريقٍ لا يؤدي إلى أي مكان.
تعليقات
إرسال تعليق