العذابُ في وعي الشهرة: الجانب النفسي العميق للمشاهير
العذابُ في وعي الشهرة: الجانب النفسي العميق للمشاهير
إنّها تجلسُ هناك، في ظلامِ الغرفةِ التي لم تكن يومًا سوى انعكاسٍ لحقيقتها. الجدرانُ صامتةٌ، لكنّها تراقب. الضوءُ الخافتُ لا يخفي تجاعيد القلق التي لم تكن موجودة قبل أعوام، عندما كانت الشمسُ تشرقُ بلا ثقل، وكان الجمهورُ يهتفُ بحماسٍ لا يشوبه ظلالُ شكٍّ أو سخط. الآن، صارت الضوضاءُ بعيدة، لكن الصمتَ لم يأتِ بالسكينة؛ بل جلبَ معهُ رعبًا خفيًّا، ذلك النوع من الرعب الذي يعيشهُ من ذاق لذّة الشهرة، ثم بدأ يُدركُ ببطءٍ أنه قد يتحوّلُ إلى خوف من النسيان.
إنّ العقلَ الذي تعوّدَ على الضوءِ لا يستطيعُ تحمّل العتمة بسهولة. النفسُ التي اعتادتِ التصفيق لا تستطيعُ تحمّل الهدوء إلا كعقاب. وها هي الآن، تجلسُ في هذه الغرفة، تستمعُ لصمتٍ أشدّ صخبًا من أي جمهورٍ صرخَ باسمها يومًا. ما كان مجدًا صار قلقًا نفسيًا، وما كان يقينًا صار اكتئاب المشاهير، وما كان ذاتها صارَ مرآةً مشوّهة، تعكسُ وجوهَ الآخرين أكثر مما تعكسُ حقيقتها.
الجانب النفسي للمشاهير: بين القلق والاكتئاب
إنّ الصحة النفسية للمشاهير ليست كما تبدو في الصور والفيديوهات التي تعرضها وسائل التواصل الاجتماعي. هناك فرقٌ كبيرٌ بين الصورة التي تُبثّ للعالم، والحقيقة التي تُخفى خلف الأبواب المغلقة. كلّ شيءٍ محسوب: الكلمة، الابتسامة، التعليق، وحتى طريقة الرد على الانتقادات. لكن في الداخل، حيث لا يوجد تصفيقٌ ولا جمهور، هناك خوفٌ يزحف.
الخوف من فقدان الشعبية، الخوف من أن يكون الترند الأخير هو الترند الأخير فعلاً. الخوف من أن يتحوّل المديح الجماعي إلى حملة تنمّر إلكترونية. الخوف من أن يُستبدل الوجهُ الذي أحبّه الناس بوجهٍ آخر، جديد، أكثر شبابًا أو أكثر إثارةً للجدل. إنّ الشهرة في جوهرها ليست إلا سباقًا ضد الزمن، ضد النسيان، وضد أنفسهم.
الاكتئاب والقلق: الجانب المظلم وراء الشهرة
يعتقدُ الكثيرون أنّ الشهرة تعني السعادة المطلقة، لكن الواقع النفسي للمشاهير يكشفُ العكس. كلّما زادت الأضواء، زادت المسؤولية النفسية. كلّما زاد عدد المتابعين، زادت الضغوط النفسية. لا يمكن للشخص أن يكون طبيعيًا عندما يُراقب على مدار الساعة. لا يمكنه أن يخطئ دون أن يتحوّل الخطأ إلى ترند عالمي.
القلق هنا ليس قلقًا عاديًا، بل هو نوعٌ من اضطراب القلق الاجتماعي الذي يجعل الشخص دائم الترقّب، دائم الحذر، يشعر بأنّ كلّ خطوةٍ قد تكون الأخيرة في مسيرته. أمّا الاكتئاب، فهو ليس مجرد مزاج سيئ، بل هو شعورٌ بالعجز حتى في قمة النجاح. عندما يصبح كل شيءٍ متاحًا، تفقد الأشياء معناها. عندما يصبح الحبّ الجماهيري ضمانًا للحياة، يصبح الخوف من الكراهية الجماعية كابوسًا مستمرًا.
التنمر الإلكتروني وتأثيره على نفسية المشاهير
في عصر السوشيال ميديا، أصبح من المستحيل أن تكون محبوبًا دون أن تكون مكروهًا أيضًا. التعليقات السلبية ليست مجرد كلمات، بل طعناتٌ يومية، تجعل الشخص يشكّ في نفسه، في مظهره، في صوته، في قراراته. حتى أقوى الشخصيات تنهار تحت ضغط الكراهية المنظمة، والهاشتاغات المسيئة التي تنتشر كالنار في الهشيم.
المفارقة هنا أنّ الجمهور الذي يرفع شخصًا إلى القمة هو نفسه الجمهور الذي قد يسقطه إلى القاع. الأمر لا يتعلّق بالموهبة فقط، بل بمزاج الجماهير، بـالترندات، بمدى قدرة الشخص على البقاء في قلب الحدث دون أن يتحوّل إلى ضحية الحدث نفسه.
هل هناك خلاص؟
السؤال الذي يطرحه كلّ من يختبر الشهرة والقلق: هل هناك مهرب؟ هل يمكن للإنسان أن يكون مشهورًا دون أن يفقد نفسه؟ هل يمكن للمرء أن يظلّ محبوبًا دون أن يُستنزف نفسيًا؟
الإجابة ليست سهلة، لكنها تبدأ من الداخل. الحدود النفسية هي الحل الوحيد للنجاة. إدراك أنّ الشهرة ليست مقياسًا للقيمة الشخصية، وأنّ الحب الجماهيري ليس حبًا حقيقيًا، بل مجرّد صورةٍ قابلة للتغيير. لا يمكن النجاة من هذه الدائرة إلا إذا أدرك الشخص أنّ قيمته الحقيقية لا تُقاس بعدد اللايكات أو التعليقات، بل بمدى سلامه الداخلي، بقدرته على أن يكون هو، دون الحاجة إلى تصفيق الآخرين.
وفي النهاية، الشهرة قد تكون حلمًا جميلاً، لكنها أيضًا اختبارٌ صعب. البعض ينجو، والبعض يسقط، والبعض يعيش حياته كلها في محاولة يائسة لإثبات أنه لا يزال موجودًا. والمأساة الحقيقية ليست في السقوط، بل في الخوف المستمر من السقوط.
عزالدين خليل

تعليقات
إرسال تعليق