"حقيقة الوجود والواقع"

 الوجود الواقعي – في البحث عن إطار بلا يقين مطلق


"ليس المطلوب أن نبحث عن أجوبة مطلقة، بل أن نبحث عن الأسئلة التي تصمد أمام الزمن."



في كل محاولة لتفسير الوجود، يقف العقل البشري أمام معضلة مزدوجة: فمن ناحية، هناك الرغبة الدائمة في إيجاد إطار شامل يفسر كل شيء، ومن ناحية أخرى، هناك الحقيقة القاسية بأن أي تفسير شمولي سرعان ما يتحول إلى سجن فكري، يفقد مرونته أمام متغيرات الواقع.


منذ فجر التاريخ، كانت الفلسفات تسير بين هذين الحدين: بعضها بنى نظريات متماسكة لكنها مغلقة، تُغلق أبوابها أمام أي استفسار جديد، بينما سقطت أخرى في فوضوية ترفض أي شكل من أشكال النظام، معتقدة أن الانهيار الفكري هو الحل. الفلسفة الواقعية الوجودية لا تتخذ هذا الطريق أو ذاك؛ بل تحاول أن ترسم مسارًا ثالثًا، مسارًا يقف على الحافة بين النظام والفوضى، بين القانون والاحتمال، بين الحتمية والحرية.


هذه الفلسفة لا تنطلق من مسلّمات نهائية، بل من مبدأ الصيرورة، من الاعتراف بأن المعرفة ليست ثابتة، وأن الوجود ليس معطىً جاهزًا، بل هو حالة من التشكل المستمر. لا توجد نهاية للحقيقة، بل توجد عملية مستمرة من الاقتراب، تصحيح الأخطاء، وتوسيع الأفق.


. الواقع: بين الضرورة والاحتمال


في قلب كل تفسير فلسفي للوجود، نجد سؤالًا أساسيًا: هل الكون محكوم بقوانين صارمة لا تترك مجالًا للصدفة، أم أنه مجرد تفاعل عشوائي للأحداث دون أي نمط يمكن التعرف عليه؟


الجواب، كما توضحه الفيزياء الحديثة، ليس بهذه البساطة. فبينما تقدم النسبية العامة رؤية للعالم محكومة بقوانين دقيقة، حيث الزمان والمكان يشكلان نسيجًا هندسيًا محددًا، تكشف ميكانيكا الكم عن مستوى آخر من الواقع، حيث تصبح الاحتمالات هي القاعدة، وليس الاستثناء.


ما الذي يعنيه هذا فلسفيًا؟ إنه يعني أن الكون ليس كتلة صلبة مغلقة القوانين، ولا هو فوضى غير مفسرة، بل هو نظام ديناميكي يتشكل عبر التفاعل بين الحتمية والاحتمال. بعض الظواهر يمكن التنبؤ بها بدقة، وبعضها الآخر يخضع لاحتمالات تتكشف فقط عندما تحدث.


> "الكون ليس كتابًا مكتوبًا مسبقًا، لكنه أيضًا ليس ورقة فارغة. إنه نص مفتوح يُعاد تأويله باستمرار عبر القوانين والاحتمالات معًا."


. الإنسان كحالة من الوجود غير المكتمل


لا يمكننا فهم الإنسان دون فهم نشأته، ليس فقط ككائن بيولوجي، بل كحالة فكرية متطورة. التطور الدارويني علمنا أن الإنسان ليس منتجًا نهائيًا، بل نقطة في سلسلة لا تزال مستمرة. وعينا، إدراكنا، مفاهيمنا عن الذات والآخر، كلها ليست جوهرًا ثابتًا، بل نتائج تفاعلية بين البيئة والتجربة.


لكن إذا كان الإنسان كائنًا متطورًا، فهل يعني ذلك أن لديه غاية؟ هنا تأتي الفلسفة الواقعية الوجودية لتطرح مفهومًا مختلفًا عن الغائية التقليدية: الغاية ليست معطاة مسبقًا، لكنها ليست غائبة بالكامل. بل هي شيء يتشكل أثناء السير، وليس قبل البداية.


> "الحياة ليست لغزًا يجب حله، بل تجربة يجب أن تُعاش بكامل تناقضاتها."


. الحقيقة: لا مطلقة ولا معدومة


منذ نشأة الفكر الفلسفي، كان هناك تياران متضادان: الأول يرى أن الحقيقة شيء مطلق ومكتمل، يمكن للإنسان أن يصل إليه إن امتلك الأدوات الصحيحة. بينما يرى الثاني أن الحقيقة مجرد وهم، تخلقها عقولنا لتفسير عالم غير مفهوم.


لكن العلم الحديث يقدم إجابة مختلفة. الحقيقة ليست كيانًا ثابتًا، لكنها أيضًا ليست مجرد بناء عقلي نسبي. إنما هي عملية مستمرة من الاكتشاف وإعادة البناء. ما نفهمه عن الكون اليوم قد يكون مختلفًا عما سنفهمه غدًا، لكن هذا لا يعني أن الحقيقة غير موجودة، بل تعني أنها ليست نهائية أبدًا.


> "الحقيقة ليست نقطة وصول، بل أفق يتراجع كلما اقتربنا منه."


. الأخلاق: بين الحاجة والاختيار


إذا لم تكن هناك غاية كونية، فهل يعني ذلك أن الأخلاق مجرد وهم؟ هنا يجب إعادة صياغة السؤال: الأخلاق ليست قوانين أبدية منحوتة في الكون، لكنها أيضًا ليست اختراعًا بشريًا خالصًا. بل هي نتاج تطوري، ظهرت كنتيجة لتفاعل الكائنات الحية مع بيئاتها، حيث طُوِّرت قيم مثل التعاون، العدالة، والمسؤولية ليس لأنها "صحيحة" بمعنى مطلق ، بل لأنها نشأت كاستجابة ضرورية لاستمرار المجتمعات وتطورها. ومع ذلك، فإن تطور الوعي الإنساني أضاف بُعدًا آخر للأخلاق، جعلها تتجاوز مجرد الضرورة البيولوجية أو البقاء الاجتماعي. فبينما يمكننا تفسير أصول الأخلاق من خلال الانتخاب الطبيعي أو الحاجة إلى التكيف، فإن الإنسان يتميز بقدرته على إعادة تعريف هذه القيم، وتوسيعها بما يتجاوز مجرد البقاء المادي.

من هنا، تصبح الأخلاق مزيجًا بين الضرورة والاختيار. فالإنسان ليس مجبرًا بيولوجيًا على التصرف بأخلاقية، لكنه في الوقت نفسه ليس حرًا تمامًا في صياغة أخلاقه من الصفر. بل يتفاعل مع تراث طويل من القيم، يعيد تفسيرها وفق ظروفه وتجربته الشخصية والمجتمعية. هذا يعني أن الأخلاق ليست جامدة، لكنها أيضًا ليست متغيرة بشكل عبثي. إنها عملية توازن بين المبادئ الثابتة التي أثبتت فعاليتها عبر الزمن، وبين الحاجة إلى إعادة صياغتها وفقًا للمعرفة المتجددة والتطورات المستمرة.

في الفلسفة الواقعية الوجودية، الأخلاق ليست قائمة على أوامر مطلقة، لكنها أيضًا ليست مجرد نسبية أخلاقية تبرر أي شيء. بل هي التزام واعٍ تجاه الآخر، ينبع من فهم عميق بأن مسؤوليتنا ليست مفروضة علينا من قوة خارجية، بل نابعة من وعينا بكوننا جزءًا من نسيج أوسع من العلاقات الإنسانية والكونية.


> "الأخلاق ليست قيودًا تُفرض من الخارج، لكنها أيضًا ليست مجرد خيارات فردية. إنها التزام ينبع من وعينا المشترك بواقعنا الإنساني."




المعرفة: مشروع بلا نهاية


إذا كان الوجود ليس حالة ثابتة، بل عملية تشكُّل مستمرة، فإن المعرفة بدورها ليست كيانًا مغلقًا، بل مشروع دائم التوسّع. الفكر العلمي الحديث لا يعتبر الحقيقة نقطة وصول، بل يعتبرها أفقًا متحركًا، حيث كل اكتشاف جديد يفتح الباب أمام أسئلة أعمق.


هذه النظرة تتجاوز التصورات التقليدية للمعرفة. فبدلًا من اعتبارها مجرد انعكاس مباشر للواقع، يمكن النظر إليها على أنها عملية تفاعل بين العقل البشري والعالم، حيث يتم تعديل النماذج باستمرار وفقًا لما يكشفه البحث والتجربة. لم تعد الحقيقة تُعرَّف ككيان مطلق ومستقل، لكنها أيضًا ليست مجرد بناء نسبي. بل هي مسار من التصحيح المستمر، حيث يتم تجاوز الأخطاء، وتوسيع الفهم، وإعادة صياغة المفاهيم وفقًا للمعطيات الجديدة.

بهذا المعنى، تصبح الفلسفة الواقعية الوجودية رفضًا لكل من الوثوقية المطلقة والشك المطلق. فهي لا ترى في المعرفة مجرد تراكم للمعلومات، بل تعتبرها عملية نشطة من التفاعل والتفسير. كل فكرة عظيمة ليست نهائية، لكنها ليست زائلة أيضًا. إنها محطة في طريق لا ينتهي من البحث والاكتشاف.

> "الحقيقة ليست شيئًا نمتلكه، بل هي شيء نسعى إليه، وكلما اقتربنا، تغيرت معالمها وفتحت لنا آفاقًا جديدة."

الوجود كاحتمال مفتوح


في النهاية، الفلسفة الواقعية الوجودية لا تقدم إجابات نهائية، بل تقدم إطارًا يسمح بطرح الأسئلة الصحيحة. إنها فلسفة ترفض الجمود لكنها لا تقع في الفوضى، تعترف بعدم اليقين لكنها لا تستسلم له، وتؤمن بأن كل محاولة لفهم العالم هي خطوة في طريق لا نهائي من البحث والاكتشاف.


الكون ليس كتابًا مكتوبًا مسبقًا، لكنه أيضًا ليس فراغًا بلا معنى. إنه نص مفتوح، يُعاد تأويله باستمرار من خلال التفاعل بين القوانين والاحتمالات، بين الضرورة والحرية، بين المعرفة واللايقين. والإنسان، في هذا الإطار، ليس مجرد كائن محكوم بقوانين حتمية، لكنه أيضًا ليس كيانًا بلا جذور أو اتجاه. بل هو مشروع غير مكتمل، تتشكل هويته ومعناه عبر تجربته المستمرة في البحث والفهم والتفاعل.


> "ليس المطلوب أن نبحث عن أجوبة مطلقة، بل أن نبحث عن الأسئلة التي تصمد أمام الزمن."


عزالدين خليل




 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"مأساة صبايحي وجدي وصبايحي خالد في سطيف: عندما يُسقط العنف آخر أقنعة الإنسان"

ما معنى الحياة

الوعي ليس سرًا ميتافيزيقيًا: الإنسان امتداد مادي للكون"