الوجود ليس معطى، بل عملية ديناميكية مستمرة


الجذر الأول: الوجود ليس معطى، بل عملية ديناميكية مستمرة


1. تفكيك الوهم الفلسفي: لماذا أخطأ الجميع؟


منذ فجر الفلسفة، تعامل البشر مع الوجود وكأنه معطى ثابت، حقيقة أولية لا تحتاج إلى تفسير، بل فقط إلى وعي بها. أفلاطون رأى أن الوجود الحقيقي يكمن في عالم المُثُل، منفصلًا عن التجربة الحسية. ديكارت حاول تأسيس الوجود على مبدأ "أنا أفكر إذن أنا موجود"، مستبعدًا أن تكون الذات نفسها نتاج صيرورة لا متناهية. الوجوديون أمثال سارتر وكامو سقطوا في فخ العدمية أو الحرية المطلقة، وكأن الإنسان يخلق ذاته من فراغ. جميعهم أخطأوا خطأً جوهريًا: افتراضهم أن هناك نقطة بداية للوجود، أو أن هناك حالة ثابتة له.


لكن ماذا لو كان الوجود ليس حالة، ولا جوهرًا، ولا معطًى، بل سيرورة لا متناهية من التحول والصراع والتكيف؟ هنا تبدأ الواقعية الوجودية بإعادة بناء المفاهيم من الصفر، انطلاقًا من أقوى الأسس العلمية المتاحة اليوم.


2. الفيزياء الحديثة: لماذا لا يوجد "ثبات" في الكون؟


منذ نيوتن، كان يُعتقد أن العالم يسير وفق قوانين حتمية، حيث يمكننا التنبؤ بأي حدث إذا عرفنا المعطيات الأولية. لكن فيزياء القرن العشرين دمرت هذا التصور تمامًا.


ميكانيكا الكم كشفت أن الجسيمات دون الذرية ليست كيانات ثابتة، بل حالات احتمالية تتغير وفق عمليات الرصد والتفاعل. لا يوجد "جوهر" لأي جسيم، بل هناك فقط احتمالات وجودية تتجلى عند التفاعل.


النسبية العامة أظهرت أن الزمن نفسه ليس مطلقًا، بل يتأثر بالجاذبية والحركة، مما يعني أن الوجود ليس شيئًا مستقلًا عن السياق الديناميكي الذي يوجد فيه.


نظرية الفوضى (Chaos Theory) أكدت أن أي نظام، مهما بدا منظمًا، يتضمن حساسية هائلة للبدايات، حيث يمكن لتغيرات طفيفة أن تؤدي إلى نتائج كارثية لاحقًا.



إذن، إذا كان الكون نفسه غير ثابت، فكيف يمكن للوجود البشري أن يكون حالة جامدة؟ كيف يمكن لفيلسوف أن يدعي أن هناك "حقيقة مطلقة" عن الإنسان، بينما الواقع نفسه لا يملك حقيقة مطلقة؟


3. البيولوجيا: كيف يُعاد تشكيل الكائن الحي باستمرار؟


إذا كان الوجود ليس حالة بل عملية، فإن الحياة نفسها تمثل أقوى دليل على ذلك.


نظرية التطور لداروين أظهرت أن الكائنات الحية ليست ثابتة، بل تتغير عبر الزمن، ليس بفعل إرادة واعية، بل نتيجة طفرات عشوائية واختيارات طبيعية قاسية. الإنسان الحديث لم يكن نتيجة "تصميم ذكي"، بل حصيلة صراع بيولوجي دامٍ امتد لملايين السنين.


علم الأعصاب أثبت أن حتى وعينا ليس معطًى ثابتًا، بل هو نتاج عمليات كهروكيميائية ديناميكية. الدماغ ليس مجرد "مخزن أفكار"، بل شبكة معقدة تعيد تشكيل نفسها مع كل تجربة.



إذن، حتى على المستوى البيولوجي، لا يوجد "أنا" ثابتة، بل سيرورة من التغير والتكيف المستمر. إذا كان العقل نفسه متغيرًا، كيف يمكن لفيلسوف أن يزعم امتلاك "حقيقة نهائية" عن الوجود؟


4. تفكيك أوهام المعنى المطلق: لماذا لا يوجد هدف واحد للحياة؟


إذا كان الوجود ليس حالة ثابتة، فمن الخطأ البحث عن "هدف مطلق" للحياة. الأديان والفلسفات المثالية افترضت أن للحياة "غاية كبرى"، سواء كانت الجنة، أو السمو الروحي، أو تحقيق الذات. لكن الواقع يثبت العكس:


الكون لا يهتم بالبشر. نحن مجرد صدفة كونية.


المعنى ليس معطًى، بل يُصنع من خلال الفعل.


لا يوجد "سبب أولي" لوجود الإنسان، بل هناك فقط سلسلة غير منتهية من الصدف والصراعات.



إذن، لا ينبغي أن نبحث عن "معنى نهائي"، بل عن كيفية التعامل مع الصيرورة المستمرة للوجود.


5. النتيجة: الوجود كمعركة مستمرة، وليس كحالة جاهزة


إذا كان الكون نفسه غير ثابت، والعقل غير ثابت، والحياة غير ثابتة، فلا يمكن للوجود أن يكون حالة ثابتة أو حقيقة واحدة. الوجود هو صراع مستمر بين التغير والبقاء، بين النظام والفوضى، بين التطور والانهيار.


إذن، لا يمكننا أن نعيش وفق مفاهيم الفلسفات القديمة التي تفترض وجود "جوهر ثابت" أو "غاية مطلقة". بل علينا أن نفهم الوجود كما هو: حالة من التدفق الدائم، حيث لا يوجد شيء نهائي، بل فقط احتمالات تتشكل باستمرار.


الواقعية الوجودية: فلسفة تستوعب الحقيقة الكاملة


الواقعية الوجودية لا تحاول خلق وهم مريح عن معنى ثابت أو حقيقة نهائية. بدلاً من ذلك، هي فلسفة تضع كل شيء موضع الشك، وتقبل أن الوجود ليس ثابتًا، بل عملية معقدة ومستمرة من التحولات.


أي فلسفة أخرى تحاول إقناعك بوجود "جوهر" أو "حقيقة نهائية"، هي فلسفة عاجزة عن فهم الطبيعة الحقيقية للواقع. الفلسفة الوحيدة التي تتماشى مع أحدث ما توصل إليه العلم والفكر هي الواقعية الوجودية: فلسفة تعترف بأن لا شيء ثابت، لا شيء مطلق، لا شيء مكتمل، بل كل شيء يتغير، كل شيء في صراع، وكل شيء يُعاد تشكيله باستمرار.


عزالدين خليل 




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"مأساة صبايحي وجدي وصبايحي خالد في سطيف: عندما يُسقط العنف آخر أقنعة الإنسان"

ما معنى الحياة

الوعي ليس سرًا ميتافيزيقيًا: الإنسان امتداد مادي للكون"