الجوع يقتل: كيف يدمر الفقر العائلات ويدفع الإنسان لقتل أحبائه
عندما يصبح الجوع سكينًا: الإنسان في مرآة الحيوان
1- مقدمة: الجوع الذي يكشف الحقيقة
لا شيء يفضح الإنسان كما يفعل الجوع. حين تمتلئ البطون، تكتسي الوجوه بالابتسامات، تسود القوانين، تُرفع الشعارات، وتُعقد الندوات عن الأخلاق والتضامن. ولكن حين يطرق الجوع الأبواب، يسقط القناع، ويتجلى الإنسان في صورته الحقيقية: مفترس، لا يختلف عن الأسود والضباع والدببة والعناكب التي تفترس أبناءها. الجوع ليس مجرد نقص في الطعام، بل هو محرّك فوضوي يُعيد تشكيل العلاقات، يُبدّل الأولويات، ويفتح الباب لأبشع ما في النفس البشرية.
عبر التاريخ، لم يكن الجوع مجرد معاناة صامتة، بل كان شرارة حروب، ومُبررًا للنهب، ودافعًا للقتل. حين يشتد الجوع، تنهار روابط العائلة، وتصبح التضحية بالآخر ضرورة للبقاء. الأب الذي كان يربت على رأس ابنه، قد يصبح في لحظة وحشًا يفترسه. الزوج الذي أقسم أن يحمي زوجته، قد ينظر إليها كجثة مؤجلة، والإخوة الذين تقاسموا الرغيف قد يتحولون إلى أعداء في معركة البقاء الأخيرة.
2- الطبقة المعدنية: حين يتحول الفقر إلى موت بطيء
في قاع المجتمع، حيث لا تصل الشمس، يعيش البشر كما تعيش الحشرات بين الصخور. ينهشهم الفقر، وتطحنهم الحاجة، وتتآكل أرواحهم كما ينهش الصدأ الحديد. يخرج الرجل في الصباح بحثًا عن لقمة، لا لأنه يؤمن بالعمل، بل لأنه يخشى العودة إلى البيت خالي اليدين. المرأة تحدّق في القدر الفارغ، كأنها تستطيع بحدقة عينيها أن تملأه بشيء. الأطفال يتعلمون مبكرًا أن الحلم ترف، وأن الأمل مجرد كذبة يبيعها الأغنياء للفقراء كي لا يتمردوا.
في هذا العالم، تنمو الكراهية كما تنمو الطحالب في الماء العكر. يبدأ الأمر باستياء خفي، بنظرات حقد نحو الجار الذي يملك القليل أكثر منهم. ثم تتسع الدائرة، فيصبح العدو هو الأخ، الزوجة، الابن، أي شخص يمكن أن يكون العقبة الأخيرة بين الإنسان وبين كسرة الخبز. حين يصل الفقر إلى هذا الحد، لا تبقى العائلة ملاذًا، بل تتحول إلى ميدان معركة، والبيت يصبح ساحة لتصفية الحسابات.
3- الجوع الذي يحوّل الإنسان إلى وحش
في التاريخ، كما في الحاضر، لا تندر القصص التي يصبح فيها الإنسان ذئبًا لأقرب الناس إليه.
في روسيا خلال حصار لينينغراد، لم يكن الجوع مجرد شبح يلوح في الأفق، بل كان سكينًا مغروسًا في اللحم. اضطر الآباء لأكل أطفالهم، واضطرت الزوجات لخنق أزواجهن، وتحولت العائلات إلى مقابر مفتوحة حيث كان البقاء للأقوى.
في الصين، خلال المجاعة الكبرى، بيعت الفتيات الصغيرات في الأسواق ليس كزوجات، بل كطعام.
في أوروبا، خلال فترات الطاعون والمجاعات، لم يكن أكل اللحم البشري مجرد خرافة، بل كان ضرورة سجلها المؤرخون بدماء الضحايا.
لكن، لماذا نذهب بعيدًا؟ ألا نرى ذلك يحدث اليوم، في الأحياء الفقيرة، في العشوائيات، في الأركان المظلمة للمدن حيث يختبئ البؤس؟ الزوج الذي يقتل زوجته لأنها طلبت منه طعامًا لا يستطيع توفيره. الأب الذي يخنق أطفاله لأنه لا يستطيع سماع صراخهم طلبًا للخبز. الشاب الذي يطعن أخاه بسبب لقمة، بسبب دين صغير، بسبب لا شيء تقريبًا، لكنه في لحظة الغضب يبدو ككل شيء.
4- التحول: متى يقتل الإنسان من يحب؟
ليس الجوع مجرد إحساس مؤقت بالفراغ، بل هو حالة ذهنية تدفع الإنسان إلى هاوية من الجنون التدريجي. تبدأ القصة بليالٍ طويلة من الأرق، حيث تتسع العيون في العتمة، والدماغ يعمل بلا توقف، كأنما يحاول العثور على مخرج من متاهة لا نهاية لها. ثم يأتي الغضب، ذلك الغضب الخام الذي لا يوجه نفسه ضد أحد بعينه، لكنه يكبر، يتضخم، حتى يصبح وحشًا لا يمكن السيطرة عليه.
في البداية، يكون القتل فكرة، خاطرة عابرة تمر في الذهن ثم تختفي. ولكن مع كل يوم يزداد فيه الجوع، تصبح الفكرة أكثر وضوحًا، أكثر إلحاحًا. ثم تأتي اللحظة الحاسمة: لحظة الانفجار. ضربة واحدة، طعنة، خنق، ثم صمت طويل. بعد ذلك، لا يوجد ندم، فقط ارتياح مؤقت، وكأن الجريمة لم تكن مجرد عنف، بل كانت حلاً، خروجًا من المتاهة.
5- القتل بوصفه ضرورة وجودية
حين نقرأ عن الحيوانات التي تقتل أبناءها، نشعر بالقشعريرة، كأننا نرى وحشية بعيدة عن عالمنا. ولكن الإنسان يفعل الشيء ذاته، فقط بطرق أكثر تعقيدًا. المجتمع الحديث، بكل قوانينه وأخلاقه، ليس أكثر من شبكة رقيقة تحاول تغطية الحقيقة العارية: الإنسان، حين يجوع، يتحول إلى قاتل.
ولكن، هل هو مذنب؟
هل يمكن أن نلوم الأب الذي كتم أنفاس طفله لأنه لم يكن يملك ما يسد بها جوعه؟ هل يمكن أن نلعن الزوج الذي قتل زوجته لأن صراخها كان يذكره بعجزه؟ هل يمكن أن نصف الأخ الذي طعن أخاه بالمجرم، إذا كان الاثنان يتقاتلان على آخر كسرة خبز؟
إن القتل في هذه الحالات ليس شذوذًا، بل منطقًا. إنه استمرار لسلسلة طويلة من العنف الذي بدأ منذ أن أدرك الإنسان أن العالم لا يمنحه ما يحتاجه بسهولة.
6- النهاية المفتوحة: من هو الإنسان حقًا؟
يُقال إن الإنسان كائن عقلاني، لكن العقل لا قيمة له حين يكون الجوع هو الحاكم. يُقال إن الإنسان كائن اجتماعي، لكن الجوع يمزّق العلاقات كما تفعل المخالب باللحم الطري. يُقال إن الإنسان متفوق على الحيوان، لكن أي تفوق هذا، إذا كان الأسد لا يقتل أشباله إلا نادرًا، بينما الإنسان يفعلها كل يوم، في كل مدينة، في كل بيت؟
حين ننظر إلى التاريخ، وإلى الواقع، وإلى الحكايات التي تتكرر دون توقف، ندرك الحقيقة البسيطة والمروعة: الإنسان، في لحظات ضعفه القصوى، ليس سوى حيوان آخر، يقاتل من أجل البقاء، مستعدًا لسفك أقرب الدماء إليه إذا لزم الأمر.
والسؤال ليس: "لماذا يقتل الإنسان عائلته حين يجوع؟"
بل: "لماذا نظن أن هذا أمر غريب؟"
الجلاد الخفي: من المسؤول عن تحول الإنسان إلى قاتل في زمن الجوع؟
1- مقدمة: من هو القاتل الحقيقي؟
حين نسمع عن رجل قتل زوجته لأنها طلبت الطعام، أو أب خنق أطفاله لأنه لم يعد يحتمل بكاءهم جوعًا، نقف مصدومين، نلعن الفاعل، نطالب بالعدالة، وننتظر أن يُقتاد إلى المقصلة أو السجن. لكن هل هو القاتل الوحيد؟
في مسرح الجريمة، هناك دائمًا من يقف في الظل، من لم يلطخ يديه بالدم لكنه وضع السكين في يد القاتل. المجتمع، الدولة، الأنظمة الاقتصادية، التاريخ، كلها تلعب دور الجلاد الصامت. إنها لا تحتاج إلى ارتكاب الجريمة مباشرة، بل يكفي أن تخلق الظروف التي تجعلها حتمية. حين يتحول الفقر إلى موتٍ بطيء، يصبح الجوع سلاحًا خفيًا يُوجَّه من أعلى نحو الأسفل، حيث يقع الفقراء فريسةً لبعضهم البعض، بينما يراقب صُنّاع المأساة المشهد من مقاعدهم الوثيرة.
2- السلطة التي تُجَوِّع: كيف يُصنع الفقر؟
الجوع ليس ظاهرة طبيعية تمامًا كما أن الجريمة ليست قدرًا. الفقر، الذي يتحول إلى عنف، هو نتيجة قرارات سياسية واقتصادية واعية. هناك من يصنع الجوع، هناك من يزرع بذور الكراهية داخل العائلات، هناك من يحوّل البشر إلى ذئاب تنهش بعضها من أجل البقاء.
السياسات الاقتصادية الجائرة: حين تحتكر فئة صغيرة الثروات، بينما يُترك الملايين في العراء، فإن النتيجة الحتمية هي الانفجار الاجتماعي. الرجل الذي لا يجد عملًا، المرأة التي لا تملك ثمن الدواء، الطفل الذي يذهب إلى النوم على معدة فارغة، هؤلاء ليسوا مجرد ضحايا للفقر، بل هم قنابل موقوتة تنتظر لحظة الانفجار.
الأنظمة الفاسدة: الحكومات التي تنهب، التي تسرق، التي تدعي الإصلاح بينما تخلق مزيدًا من الفقراء، هذه هي المجرم الأول. ليست الجريمة أن يقتل الجائع زوجته، الجريمة الحقيقية هي أن يعيش في عالمٍ جعله يرى القتل كخيار وحيد.
التفاوت الطبقي الحاد: حين يصبح الثراء الفاحش هو الوجه الآخر للفقر المدقع، وحين تُعرض الولائم على شاشات التلفاز بينما تموت العائلات جوعًا في العشوائيات، فإن النتيجة ليست مجرد إحباط، بل كراهية متصاعدة، تتحول إلى عنف داخلي، عنف موجّه نحو أقرب الأشخاص، لأن القاتل لا يستطيع الوصول إلى من سرق منه حياته، فيقتل من هم في متناوله.
3- الإعلام: كيف يُعاد تشكيل العنف؟
الإعلام لا ينقل فقط الأخبار، بل يعيد تشكيل الوعي، ويصنع الأعداء، ويوجه الغضب في الاتجاهات التي يريدها أصحاب السلطة.
يُقال للفقير إن مشكلته ليست في النظام الذي يسرقه، بل في "المهاجر" الذي ينافسه على عمله، أو في "المرأة" التي أصبحت أكثر استقلالية، أو في "الأخ" الذي لم يساعده. وهكذا، يتحول الغضب عن مساره الحقيقي، ويتحول الفقير إلى قاتلٍ لأخيه، بدلاً من أن يكون ثائرًا على قاتليه الحقيقيين.
يتم تصوير الفقر وكأنه "قدر"، ويتم تجميل الجوع تحت شعارات الصبر والتضحية، بينما يعيش السياسيون والمصرفيون حياة لا تعرف معنى الجوع.
يتم تصدير العنف على أنه مشكلة فردية، وكأن القاتل الذي يقتل بسبب الجوع مجرد مختل، وليس نتيجة منظومة كاملة دفعت به إلى الحافة.
4- الدين والأخلاق كأدوات للسيطرة
لطالما استُخدمت الأخلاق والدين كأدوات للسيطرة على الفقراء، لمنعهم من الثورة، لجعلهم يقبلون بمعاناتهم وكأنها أمرٌ طبيعي. يُقال للجائع: "تحمل، فالجوع اختبار من الله." يُقال للمقهور: "اصبر، فالدنيا فانية، والآخرة خيرٌ وأبقى." يُقال للمحروم: "لا تحسد الأغنياء، فالغنى والسلطة من نصيب من يستحقونها."
لكن الحقيقة أن الدين، في جوهره، لم يكن يومًا في صف الطغاة. لم يكن الأنبياء أبواقًا للسلطة، بل كانوا في الأصل ثائرين على الظلم. المشكلة ليست في الدين ذاته، بل في الطريقة التي يُستخدم بها كأداة لتخدير الفقراء بدلاً من أن يكون سلاحًا لتحريرهم.
5- النهاية: من سيدفع الثمن؟
حين ينظر القاضي في المحكمة إلى رجلٍ قتل زوجته بسبب الجوع، فإنه يرى قاتلًا يجب أن يُعاقب. لكنه لا يرى النظام الذي وضعه في هذا الموقف، لا يرى السياسي الذي نهب، ولا الرأسمالي الذي احتكر، ولا الإعلامي الذي خدعه، ولا المؤسسة الدينية التي طلبت منه الصبر بدلًا من الثورة.
القاتل الوحيد الذي سيُعاقب هو ذلك الرجل، بينما يبقى القتلة الحقيقيون في أماكنهم، يواصلون تجويع المزيد من البشر، ليقتل بعضهم بعضًا، وليستمر النظام كما هو.
لكن، إلى متى؟
إلى متى سيبقى الفقراء يقتلون بعضهم بعضًا، بينما المسؤولون الحقيقيون ينجون دون حساب؟
إن السؤال ليس: "لماذا يقتل الإنسان عائلته حين يجوع؟"
بل: "متى سيدرك أنه يجب أن يقتل من جعله جائعًا؟"
عزالدين خليل
.webp)
تعليقات
إرسال تعليق