سُكْرُ الفكر وسُكْرُ الجسد
سُكْرُ الفكر وسُكْرُ الجسد
الليلُ في المدينة يُشبه كائناً متعباً يزحف ببطء فوق الإسفلت، متغلغلاً في الأزقة والطرقات، يتسلل كالدخان من نوافذ الحانات الرخيصة، حيث تلتقي الأرواح الضائعة تحت أضواء خافتة، وفي زوايا مكسوة برائحة الكحول والتبغ والقصص المبتورة. في إحدى هذه الحانات، حيث الزمن يبدو متوقفاً، وحيث الوجوه تذوب في العتمة، جلس خليل عند الطاولة الأقرب إلى الجدار، مُنحنياً فوق كأس نصف فارغ، يحدّق في سطحه كما لو كان مرآة تعكس عمق فكره المضطرب.
كان المكان يعجّ بالكلمات المتشابكة، ضحكات متكسرة هنا، جدالات فارغة هناك، وكلها تتلاشى في صخب موسيقى الجاز البطيئة التي تنبعث من مكبرات الصوت القديمة. لم يكن خليل يشرب كثيراً، لكنه كان يحب الحانات لسبب آخر، شيء أكثر تجذّراً في مزاجه: الحانة ليست مجرد مكان للسكر، بل مختبرٌ اجتماعي، مشهدٌ مكثف للحياة، حيث يسقط التظاهر ويظهر البشر على حقيقتهم.
كان بجانبه يجلس إلياس، صديقه الذي يصف نفسه دائماً بأنه "روائي فاشل"، لكنه في الحقيقة كان أكثر من ذلك: كان مشروعاً غير مكتمل لإنسان يبحث عن جوهره في الكلمات، رجل يغرق في القصص التي لم يكتبها، ويهرب من القصص التي عاشها. رفع إلياس رأسه من فوق كأسه وقال، وهو يمسح فمه بكمّ قميصه:
ــ "أتعلم يا خليل؟ أحياناً أشعر أن الحياة خدعة رياضية سيئة التصميم. معادلة بلا حل، أو ربما بحلّ سخيف لا أحد يريد قبوله."
ابتسم خليل ابتسامة شاحبة، ثم قال بصوت خافت:
ــ "المعادلات على الأقل تملك منطقها الخاص. الحياة ليست حتى ذلك، إنها أقرب إلى تجربة فيزيائية حيث الاحتمالات تتغير باستمرار، بلا قوانين نهائية، فقط فوضى مع لحظات عابرة من النظام."
أشعل سيجارة، وترك الدخان يتصاعد ببطء كما لو كان يريد أن يراقب الزمن وهو ينهار أمام عينيه. لم يكن السُكْرُ في رأسه ناجماً عن الكحول، بل عن التفكير المستمر، عن تلك المعضلات التي لم تفارقه منذ أن بدأ يدرك أن العالم ليس كما يبدو.
تدفقت أصوات جديدة داخل الحانة، رجال ونساء يضحكون بصخب، بعضهم يتكئ على الطاولات وكأنهم يحملون أعباء ثقيلة غير مرئية. كان هناك رجل عجوز يجلس وحيداً عند البار، يحدّق في زجاجة الويسكي أمامه وكأنه ينتظر منها أن تهمس له بشيء.
قال إلياس وهو يشير نحوه:
ــ "انظر إلى هذا الرجل. أليس غريباً كيف ينتهي المطاف بالبشر دائماً في أماكن كهذه، يبحثون عن عزاء في زجاجات فارغة؟"
أجاب خليل، دون أن يحوّل نظره عن كأسه:
ــ "ربما لا يبحثون عن العزاء، بل عن تأكيد بأن الحياة لم تكن عبثاً. السكر، مثل الكتابة، مثل الحب، مثل أي شيء، هو محاولة لإضفاء معنى على شيء لا يملك معنى واضحاً."
أطلق إلياس ضحكة خفيفة، ثم قال:
ــ "يبدو أنني بحاجة إلى المزيد من الشراب لأفهم هذه الفلسفة."
صبّ لنفسه كأساً أخرى، بينما غاص خليل أعمق في أفكاره. كان يشعر أن كل شيء مؤقت، اللحظة، المكان، حتى الأحاديث نفسها. العالم كله يبدو كلوحة قماش غير مكتملة، بضربات فرشاة عشوائية لا تشكل صورة واضحة.
لكن رغم ذلك، كان يعلم أن عليه الاستمرار.
عندما خرجا من الحانة، كان الهواء بارداً قليلاً، والسماء مليئة بضوء خافت من القمر. مشيا في الشوارع الصامتة، حيث المصابيح المكسورة تلقي ظلالاً غير منتظمة على الأرصفة.
قال إلياس، وهو يدسّ يديه في جيوب معطفه:
ــ "أحياناً أفكر في أن كل القصص العظيمة تبدأ بلحظة كهذه، حيث رجلان يسيران في الليل، يتحدثان عن الحياة، ويبحثان عن شيء لا يعرفان اسمه."
هزّ خليل رأسه ببطء، ثم قال:
ــ "كل القصص العظيمة تبدأ عندما يدرك أحدهم أن لا شيء عظيم حقاً."
وصلا إلى المبنى حيث يسكن خليل، وهو بناء قديم بواجهة متآكلة، كأن الزمن قد نقش عليه آثاره بلا رحمة. صعدا السلالم المتهالكة، وعند باب الشقة، توقف خليل للحظة، ثم التفت إلى إلياس وقال:
ــ "العالم يبدو غريباً الليلة."
ضحك إلياس، ثم ربت على كتفه وقال:
ــ "العالم غريب دائماً، أنت فقط تراه بشكل أوضح اليوم."
دخل خليل إلى شقته، أضاء المصباح الوحيد في الغرفة…
.

تعليقات
إرسال تعليق