المجتمع


في هذا العصر الذي بات فيه الإنسان غريبًا في وطنه، وحيدًا في سريره، ومقطّعًا بين ذاته وما يتوق أن يكون، تعود الأسئلة الكبرى لتُطرح من جديد، لا في كتب الفلاسفة، بل في عتمات الأرواح التي لم تجد ما يؤويها. هل الإنسان موجود كفرد، أم كجزء من قطيع؟ هل المجتمع هو تعبير عن وحدة بشرية، أم قناعٌ يخفي انفصالاً عميقًا؟


إن دوستويفسكي، حين كتب عن “رجل تحت الأرض”، لم يكن يرسم شخصية متشظية فحسب، بل كان يضع مرآةً أمام كل من جرؤ على الخروج من "الرضى الكاذب". ذلك الرجل لم يكن مريضًا كما زعم، بل كان شفافًا لدرجة أنه رأى ما لا يُحتمل رؤيته: الزيف.


الفرد: الوعي كعقوبة


الفرد، كما رآه دوستويفسكي، ليس ببساطة “وحدة بشرية” ضمن نظام اجتماعي، بل كائن يئنّ من وعيه. إنه محكومٌ بالمعرفة — معرفة الألم، العبث، المآل. بينما الآخرين يركضون وراء أهداف مصنوعة مسبقًا: مال، مكانة، استقرار، فإن الفرد الحقيقي يسأل: "لماذا؟" — وهو سؤال لا يحتمله العالم.


إن الوعي، في هذا المنظور، ليس هبةً بل لعنة. أن تعرف أنك تُخدع، أن ترى الأقنعة، أن تشكّ في كل يقين، هو في حد ذاته عبء يفوق طاقة النفس. ولهذا، يختار أكثر الناس العيش ضمن “المجتمع” لا حبًا في الآخرين، بل هربًا من أنفسهم.


المجتمع: خدعة الاتفاق الصامت


ما نسميه مجتمعًا هو، في جوهره، عقدٌ غير مكتوب بين الأرواح الفزعة: دعنا نتظاهر أننا نعرف ما نفعل، أن نؤمن بما اتُّفق عليه، أن نردد شعارات الأمل حتى لا ننفجر. المجتمع لا يحب الفرد المختلف، لا لأنه خطر، بل لأنه مرآة. المختلف يفضح. المختلف يسأل حين وجب الصمت.


ولهذا، فإن أخطر ما يمكن أن يفعله الإنسان، ليس الثورة السياسية، بل الثورة الوجودية — أن يقول: "أنا لست كما تريدونني أن أكون"، أن يختار الوحدة على الانتماء الزائف، أن يرفض اللغة السائدة لأنه يرى هشاشتها.


رؤية جديدة: ضد الثنائية


ولعل الخطأ ليس في المجتمع ولا في الفرد، بل في الثنائية ذاتها. ربما لا يجب أن نختار بين العزلة والانتماء، بل أن نعيد تعريف كليهما. لا العزلة هزيمة، ولا الانتماء خلاص. الإنسان لا يكتمل إلا حين يعرف كيف يكون وحده دون أن يُسحق، ومع الآخرين دون أن يذوب.


في هذا السياق، يقترح دوستويفسكي، ضمنيًا، أن "الحقيقة" لا توجد في الجموع، ولا في النظم، بل في الفرد الذي تجرّأ أن يصمت حتى يسمع صوته الداخلي. ربما كانت مهمة الإنسان في هذا العالم ليست أن ينجح، ولا أن يُعجب به الآخرون، بل أن يبقى حقيقيًا، ولو كلّفه ذلك كل شيء.


خاتمة: المجد في العذاب


دوستويفسكي لم يمجّد الألم، بل كشف معناه. في زمنٍ يهرب فيه الجميع من المعاناة، كتب عن شخصيات تصرخ وتبكي وتقتل وتُصلب في داخلها، لا لأنها ضعيفة، بل لأنها حقيقية.


ربما، إذًا، كانت مهمتنا ليست الهرب من الألم، بل أن نحمله، نُربّيه، ونفهمه. ففي قلب العذاب، تنبت الذات. ومن غبار السقوط، تنهض الروح — لا متعافية، بل واعية. وهذا هو المجد الوحيد الذي يستحق.


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"مأساة صبايحي وجدي وصبايحي خالد في سطيف: عندما يُسقط العنف آخر أقنعة الإنسان"

ما معنى الحياة

الوعي ليس سرًا ميتافيزيقيًا: الإنسان امتداد مادي للكون"