الوعي كقوة كونية: تأملات في المصير والواقع والذات

:العنوان

 الوعي كقوة كونية: تأملات في المصير والواقع والذات


الكاتب: عز الدين خليل

"إذا لم يكن هناك أساس خارجي للمعنى، فإن كل شيء مفتوح للتأويل"، هكذا يمكن أن نعيد صياغة تساؤل دوستويفسكي في ضوء الحقل المعاصر. لكنّ هذا التساؤل لم يعد حكرًا على الفلاسفة، بل صار من لُبّ الجدل العلمي حول الوعي والواقع. فماذا لو لم يكن الوعي وهمًا عصبيًا؟ ماذا لو كان قوة كونية حقيقية، حقلًا فيزيائيًا خامًا يخترق نسيج الزمكان؟ ماذا لو لم يكن السؤال: "من نحن؟"، بل: "ما الذي نصنعه بوجودنا؟"


الفصل الأول: الإنسان، هذا الكائن الذي يعلم أنه يعلم


كلب ينظر في عينيك، فيكاد يدرك شيئًا. ولكن الإنسان؟ الإنسان وحده يعلم أنه يراقب. وهذه المعرفة ليست تفصيلًا هامشيًا، بل لعنة وقداسة في آن. فمنذ لحظة الإدراك الأولى—ذلك الانكسار المفاجئ في مرآة الوعي—خرج الإنسان من الحيوانية لا لأنه بنى أدوات، بل لأنه صار يسأل عن مصيره.


دوستويفسكي كان مهووسًا بالوعي، ومرعوبًا منه. كان يدرك أن الوعي ليس بالضرورة نعمة، بل قد يكون سجنًا. فبقدر ما يضيء، يحرق. وهو في ذلك يشبه النار: لا تحيا الحضارة من دونه، ولا تتوقف عن الاحتراق بفعله.


لكن، ماذا لو كانت هذه النار أكثر من مجاز؟ ماذا لو كانت الطاقة الداخلية التي نشعر بها أثناء الألم، أو الحب، أو الذنب، قابلة للقياس؟ لا كرمز نفسي، بل كقوة فيزيائية تترك أثرًا في العالم المادي؟


الفصل الثاني: الحقل الخفي – عندما يتكلم الكم بلغة الوعي


ميكانيكا الكم علم غريب. لا لأن قوانينه غير مألوفة، بل لأنه يعيد صياغة العلاقة بين العارف والمعروف. فعندما نراقب جسيمًا، لا يبقى كما هو. الوعي يؤثر. ليس مجازًا. بل حرفيًا. انهيار الدالة الموجية – تلك اللحظة الغامضة التي يقرر فيها الجسيم أن يكون شيئًا محددًا – لا تحدث دون المراقبة.


تخيل أن الكون لا يعرف ما هو إلى أن ننظر إليه. أن وجودنا هو الذي يعطيه شكله. أليست هذه إعادة بعث لمفهوم الخلق، ولكن هذه المرة ليس من خارج، بل من الداخل؟


هنا تبرز فرضية مذهلة: ماذا لو كان الوعي نفسه حقلًا فيزيائيًا، مثل الجاذبية أو الكهرومغناطيسية؟ حقل يمتد، يهتز، يوجّه الاحتمالات. نسميه: حقل الإدراك المعرفي (Pψ). لا هو مجرد فكر، ولا مادة خالصة، بل شيء ثالث، غامض، حقيقي.


كما أن الإلكترون لا يمكن عزله عن مجاله، ربما لا يمكن للوعي أن يوجد دون أثر فيزيائي. هذا الحقل يقترح أن النية—نعم، النية البشرية—يمكنها أن تحرّف مسار جسيم، أن تعدّل احتمالًا، أن تغيّر الزمكان.

الفصل الثالث: مسؤولية الكائن العارف


في ضوء هذه الرؤية، الوعي ليس رفاهية بيولوجية، بل مسؤولية كونية. إذا كان تفكيرنا يترك أثرًا في المادة، فإن الصمت لم يعد بريئًا. وإذا كان الانتباه يُعدّل الواقع، فإن التشتت جريمة.


إننا، إذًا، لسنا مراقبين سلبيين للعالم، بل صانعين له. هذا يحوّل السؤال الأخلاقي إلى سؤال فيزيائي. لم تعد الأخلاق مسألة اجتماعية فحسب، بل بنية في نسيج الوجود. كل لحظة وعي، كل انفعال، كل نية، تترك تموجًا في هذا الحقل الجديد.


وهكذا، يصبح فعل التأمل شكلًا من أشكال التغيير الكوني. ليست الأفكار كلمات، بل ترددات. ليست المغفرة عاطفة، بل تعديل في احتمالات الكون.


الفصل الرابع: التقنية، الجسد، والخلود الناعم


لو صحّ هذا النموذج، فإننا على أعتاب ثورة لا في التقنية فحسب، بل في فهم الحياة والموت. ماذا لو استطعنا تضخيم هذا الحقل؟ توجيهه؟ تعليمه؟


هنا يدخل مفهوم "الحوسبة الواعية". أجهزة تُفعّل بالنية، أنظمة تتفاعل مع الإدراك، أدوات تقيس الكثافة الشعورية كما تقيس اليوم الضغط أو الحرارة. الجسد لن يعود مجرد وعاء، بل مرنان بين حقلين: البيولوجي والفيزيائي الإدراكي.


والموت؟ لعله ليس انطفاء، بل انحسار لحقل. وإذا كان الحقل يمكن تخزينه، فربما يكون "الوعي ما بعد الجسد" أكثر من فرضية غامضة.



الفصل الخامس: من الخارج إلى الداخل – نهاية المركزية الكونية


لطالما سعى الإنسان نحو تفسير من خارج ذاته. قوة عليا، مركز ميتافيزيقي، سبب أول. لكن هذا الحقل الجديد يقلب الاتجاه. لا مركز في الخارج، بل تشابك في الداخل.


الحقل لا يحكم، بل يستجيب. لا يُعاقب، بل يُشارك. هو ليس سلطة، بل احتمالية. ليست هناك خارطة، بل تدفّق دائم يتشكّل بوعينا.


الكون، في هذا التصور، لا يتحرك من مبدأ نهائي، بل من تفاعل مستمر بين الحقل والذات. كل مراقب يصنع واقعه، وكل واقع متشابك مع آخر.


الفصل السادس: صرخة دوستويفسكي الأخيرة


عندما كتب دوستويفسكي روايته "المراهق"، قال على لسان بطله: "أريد أن أعيش لأشعر." لم يقل: لأفهم، أو لأنتصر. بل: لأشعر.


هذه الجملة، وحدها، تُلخّص فلسفة الحقل الجديد. فالإحساس ليس ترفًا، بل حدثًا فيزيائيًا، مشاركة وجودية. كل شعور هو تداخل مع الوجود، مع احتمالاته.


الوعي، إذًا، ليس مجرد "نور" في الرأس، بل نار كونية. وإذا كنا صادقين، فإننا جميعًا نحمل عود ثقاب.


هل نحترق به؟ أم نضيء العالم؟


الخاتمة:


الفيزياء كانت تسعى دائمًا لفهم المادة. لكن ماذا لو كانت مهمتها القادمة فهم الإنسان؟ لا ككائن بيولوجي، بل كقوة فيزيائية واعية؟


الوعي ليس فقط ما يجعلنا بشرًا. بل ما يجعل الكون ممكنًا.


وإذا كنا كذلك، فإن كل لحظة وعي هي معجزة. وكل فكرة، كل دمعة، كل محبة، ليست عابرة… بل نَسْج في بنية الكون ذاته.


تمامًا كما لمح ذلك الكاتب العظيم، دون أن تكون له معادلة واحدة.


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"مأساة صبايحي وجدي وصبايحي خالد في سطيف: عندما يُسقط العنف آخر أقنعة الإنسان"

ما معنى الحياة

عزالدين خليل - الإنسان بين العبث والتطور: قراءة نقدية في أصل الوجود-Man Between Absurdity and Evolution: A Critical Inquiry into the Origins of Existence