"فلسفة البكالوريا 2025: لماذا صدمت المواضيع الجميع؟ من المسؤول… الفلسفة أم العقل العربي؟"
العقل بين سجنه وتحرره: مقاربة فلسفية في ضوء كارثة البكالوريا
حين نُقوّض الفكر، نقتل الفلسفة. وحين نُقصي الفلسفة، نُطفئ النور الذي يهتدي به الإنسان في ليله العقلي. هذا ما حدث — ويا للأسى — في امتحانات البكالوريا الأخيرة في الجزائر، حين تصادمت عقول آلاف الطلبة بجدار موضوعات فلسفية لم يكونوا قد أعدّوا لها فكراً، بل حُقنوا بتوقعات أساتذة — مهما كانت نيتهم حسنة — أعطوا الوهمَ هيئة الخلاص. فكانت النتيجة: هزيمةٌ فكرية، لا تربوية فحسب، وأزمة وجودية لا تعليمية فقط.
بين الظن واليقين: أزمة التوقع والتفكير
لقد أخطأ الطلبة حين وثقوا في اقتراحات لا تُلزم الواقع بشيء، وأخطأ المجتمع حين علّق أمله على حفظ دون فهم، وعلى النقل دون عقل. هنا نرى ما يشبه مأساة دوستويفسكي حين قال في "الأخوة كارامازوف": «لقد أراد الإنسان أن يُحرر نفسه من ثقل الحرية فسلّم عقله إلى الآخر». هكذا سلّم الطلبة عقولهم إلى الأستاذ، لا رغبة في التعلم، بل رهبة من التفكير. والرعب من التفكير هو أول أبواب الانحدار العقلي.
الفلسفة: المتهم البريء
في هذه المحرقة الذهنية، وُجّهت أصابع الاتهام لا إلى النظام، ولا إلى ثقافة التبعية الفكرية، بل إلى الفلسفة ذاتها. كأنما أُعيد إعدام سقراط من جديد، لا بتجرّع السمّ، بل بتجرّع السخط الجماعي من الطلاب والأولياء. لكن، من هو المذنب؟ أهي الفلسفة التي حرّكت الفكر؟ أم نحن الذين خنقنا هذا الفكر بوهم التلقين و"الملخصات الجاهزة"؟
لو عاد أفلاطون بيننا، لرأى في هذه الأزمة تحققاً لما قاله في جمهوريته: «إذا تولى غير الفلاسفة الحكم، فانتظر الطغيان أو الفوضى». أما نحن، فقد تركنا الفلسفة للورق، ووهبنا سلطتها للتوقعات والنسخ والنقل، فماذا كنا ننتظر؟
بين عقلين: المقارنة الجارحة
تحت هذه المأساة يظهر جرحٌ أعمق: أن العقل العربي ظل رهيناً للفقه والأدب، بينما انطلق العقل الغربي صوب الفلسفة والعلم. هل نحن نعي خطورة هذا الفرق؟ في العالم العربي، العقل أداة جدل لا أداة سؤال؛ وفي الغرب، العقل آلة خلق، لا آلة تكرار. فليس غريباً أن الغرب يتقدّم ونحن نتأخّر، إذ لا يمكن لعقل يهاب السؤال أن يتقن الجواب.
لقد علّمنا الفقه كيف نسير في طرقٍ معبّدة مسبقاً، وعلّمنا الأدب كيف نتغنّى بمآسينا، لكن الفلسفة وحدها تعلّمنا كيف نُعيد طرح السؤال ذاته من زوايا لا نهائية. وهذا ما نخشاه. الفلسفة تُهدّد أنظمتنا التربوية التي تريد الطاعة لا الشك، والامتثال لا التساؤل، والهضم لا الهدم.
من الظل إلى النور: نداء أفلاطوني
في "أسطورة الكهف"، تحدّث أفلاطون عن السجناء الذين عاشوا عمرهم يرون ظلالاً، وحين خرج أحدهم للنور وعاد ليحدّثهم عن العالم الحقيقي، قتلوه. هكذا نحن، كلما حاولت الفلسفة أن تخرجنا من كهوف النقل الأعمى، نغضب منها، ونطلب رأسها.
لكن الحقيقة المؤلمة أن الامتحان لم يكن في الفلسفة، بل في حريتنا الفكرية ذاتها. وقد رسبنا، لا لأن الأسئلة كانت صعبة، بل لأننا لم نعتد التفكير خارج الصندوق، بل داخل الدليل المدرسي، داخل “احفظ هذا وستنجح”.
خاتمة: الفلسفة ضرورة، لا ترف
في النهاية، الأزمة ليست في امتحان، بل في بنية عقلية كاملة تهرب من الشك، تخشى النقد، وتقدّس الظنّ. إن الفلسفة ليست درسا في الورق، بل هي تمرين على الحياة الحرة. نحن لا نحتاج إلى إعادة النظر في امتحانات الفلسفة، بل في علاقتنا بالعقل ذاته.
لن يُكتب لنا الخروج من مؤخرة العالم إلا إذا وضعنا العقل — لا الحفظ — على رأس سلّم القيم. يومها فقط، سيكون البكالوريا اختباراً للإنسان لا للحافظة، وللفكر لا للملف. ويومها، سنفهم أن الفلسفة لم تكن عدوّنا قط، بل أملنا الأخير.
تعليقات
إرسال تعليق